خطبة الجمعة القادمة بتاريخ ١١ اكتوبر ٢٠٢٤م الموافق ٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ه تحت عنوان : ( رَحِمَ اللَّهُ رجلًا سَمْحًا )
اقرأ في هذه خطبة
أولا – السماحة تعريفها ومعناها
ثانياً : الاسلام يأمرنا بالسماحة في المعاملات
ثالثاً : السماحة فيما بين المسلمين
رابعاً : سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين
الخطبة الأولي
الحمد لله المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا، المتفرد بتصرف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرا وتدبيرا، المتعالي بعظمته ومجده الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، أطلع شمس الرسالة في حالك الظلم سراجا منيرا، ومَنّ بها على أهل الأرض فيَا لها من نعمة لا يستطيعون لها شكورا، وفجر ينابيع الهداية في قلوب من سبقت لهم منه الحسنى تفجيرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكبره تكبيرا الذي لم يزل ولا يزال بجميع المحامد جديرا، وأستعين به استعانة من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، فأبى أكثر الناس إلا كفورا.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وسلم تسليما كثيرا.
اما بعد
فقد حرَصَ الشَّرعُ الحكيمُ على إقامةِ عَلاقاتٍ طيِّبةٍ بينَ المُسلمينَ، فيها التَّكافُلُ والتَّرابطُ والمحبَّةُ والتَّعاونُ والسماحة
وفي الحديث عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: " الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ " صحيح لغيره البخاري في "الأدب المفرد
أولا: السماحة تعريفها ومعناها
تعريف السماحة : عرفها ابن الأثير بأنّ المقصود بها: الجود عن كرم وسخاء
ومعناها أنها صفة من طرف واحد يبذل فيها الشخص ما لا يجب تكرما وتفضلا
روي الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمَحْ، يُسْمَحْ لَكَ» أي: عامِلِ النَّاسَ بالسَّماحةِ والمُساهلةِ؛ يُعامِلْكَ اللهُ بمِثلِه في الدُّنيا والآخِرةِ، والجزاءُ مِن جِنسِ العملِ، والمعنى أنَّ تَسهيلَكَ للعِبادِ يكونُ سَببًا لتَسهيلِ اللهِ لك في الدَّارَينِ، فيُرقِّقُ قُلوبَ العِبادِ لك في الدُّنيا، فيَسمَعوا قَولَكَ، فيكونُ أنفعَ لك ولهم، وقد تكونُ سَماحةُ العبدِ ومُساهلتُه سَببًا لسَماحةِ اللهِ له، ومَغفرتِه له ذُنوبَه، وفَوزِه في الآخِرةِ، كما أخرَجَ الشَّيخانِ عن حُذَيفةَ وأبي مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنهما: "أنَّ رَجُلًا ممَّن كان قَبلكم أتاه ملَكُ المَوتِ ليَقبِضَ نفْسَه، فقال: هل عمِلْتَ خيرًا قَطُّ؟ قال: ما أعلَمُ، قال له: انظُرْ، قال: ما أعلَمُ غيرَ أنِّي كنتُ أُبايِعُ النَّاسَ، فأتجاوَزُهم وأتجاوَزُ عن المُعسِرِ؛ فأدخَلَه اللهُ الجنَّةِ".
وسماحة المسلمين الّتي تبدو في تعاملاتهم المختلفة سواء مع بعضهم أو مع غيرهم من أصحاب الدّيانات الأخرى.
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: «جمع الله عزّ وجلّ في هذه الشّريعة بين كونها حنيفيّة وكونها سمحة. فهي حنيفيّة في التّوحيد. سمحة في العمل»
روي الامام احمد عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَبَكَى. قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَ أُنْزِلَتْ، غَمَّتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَمًّا شَدِيدًا، وَغَاظَتْهُمْ غَيْظًا شَدِيدًا، يَعْنِي، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكْنَا، إِنْ كُنَّا نُؤَاخَذُ بِمَا تَكَلَّمْنَا، وَبِمَا نَعْمَلُ، فَأَمَّا قُلُوبُنَا فَلَيْسَتْ بِأَيْدِينَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، قَالَ: فَنَزلت هَذِهِ الْآيَةُ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] إِلَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ، فَتُجُوِّزَ لَهُمْ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَأُخِذُوا بِالْأَعْمَالِ
ولله در الشافعي حين قال
دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ
وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي
فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ
وَكُن رَجُلاً عَلى الأَهوالِ جَلداً
وَشيمَتُكَ السَماحَةُ وَالوَفاءُ
وَإِن كَثُرَت عُيوبُكَ في البَرايا
وَسَرَّكَ أَن يَكونَ لَها غِطاءُ
تَسَتَّر بِالسَخاءِ فَكُلُّ عَيبٍ
يُغَطّيهِ كَما قيلَ السَخاءُ
وَلا تُرِ لِلأَعادي قَطُّ ذُلّاً
فَإِنَّ شَماتَةَ الأَعدا بَلاءُ
ثانياً - الاسلام يأمرنا بالسماحة في المعاملات
ايّها المسلم ان الدين المعاملة وان البيع تبادُل منافع بين الأفرادِ، هذا يبذلُ سلعتَه، وذا يبذل قيمتَها، ونبيّنا أرشد المسلمَ أن يكونَ متخلِّقًا بخلُق السماحةِ في بيعه وشرائه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى » رواه بن ماجة
وفي مُسنَدِ الإِمَامِ أَحمدَ أَنَّ عُثمَانَ رضي اللهُ عنه اشتَرى مِن رَجُلٍ أَرضًا فَأَبطَأَ عَلَيهِ، فَلقِيَهُ فَقَالَ له: مَا مَنَعَكَ مِن قَبضِ مَالِكَ؟ قال: إِنَّكَ غَبَنتَني؛ فَمَا أَلقَى مِنَ النَّاسِ أَحَدًا إِلاَّ وَهُوَ يَلُومُني، قال: أَوَذَلِكَ يَمنَعُكَ؟ قال: نَعَمْ، قَال: فَاختَر بَينَ أَرضِكَ وَمَالِكَ، ثم قال: قال رسولُ اللهِ: ((أَدخَلَ اللهُ عز وجل الجَنَّةَ رَجُلاً كان سَهلاً مُشتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضِيًا وَمُقتَضِيًا))
وفي صحيحِ مُسلِمٍ أَنَّ صَحَابِيًا يُدعَى أَبَا اليُسرِ قال: كان لي على فُلانِ بنِ فُلانِ الحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيتُ أَهلَهُ فَسَلَّمتُ، فَقُلتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلتُ له: أَينَ أَبُوكَ؟ قال: سَمِعَ صَوتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلتُ: اُخرُجْ إِليَّ فَقَد عَلِمتُ أَينَ أَنتَ، فَخَرَجَ فَقُلتُ: مَا حَمَلَكَ عَلى أَنِ اختَبَأتَ مِنِّي؟ قال: أَنَا وَاللهِ أُحَدِّثُكَ ثم لا أَكذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللهِ أَن أُحَدِّثَكَ فَأَكذِبَكَ، وَأَن أَعِدَكَ فَأُخلِفَكَ، وَكُنتَ صَاحِبَ رَسولِ اللهِ، وَكُنتُ وَاللهِ مُعسِرًا، قال: قُلتُ: آللهِ، قال: الله، قُلتُ: آلله، قال: اللهِ، قُلتُ: آللهِ، قال: اللهِ، قال: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَال: إِنْ وَجَدتَ قَضَاءً فَاقضِني، وَإِلاَّ أَنتَ في حِلٍّ، ثم ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ رَسولَ اللهِ وهو يَقُولُ: ((مَن أَنظَرَ مُعسِرًا أَو وَضَعَ عَنهُ أَظَلَّهُ اللهُ في ظِلِّهِ)).
يقول الشافعي رحمه الله
وَلا تَرجُ السَماحَةَ مِن بَخيلٍ
فَما في النارِ لِلظَمآنِ ماءُ
وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي
وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ
وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ
وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ
إِذا ما كُنتَ ذا قَلبٍ قَنوعٍ
فَأَنتَ وَمالِكُ الدُنيا سَواءُ
وَمَن نَزَلَت بِساحَتِهِ المَنايا
فَلا أَرضٌ تَقيهِ وَلا سَماءُ
وَمِن صُوَرِ السَّمَاحَةِ رَدُّ القَرضِ بِمَا هُوَ أَحسَنُ مِنهُ وَأَفضَلُ، وَإِعطَاءُ المُقرِضِ مَا هُوَ أَكمَلُ وَأَغلَى، وهو خُلُقٌ نَبَوِيٌّ كَرِيمٌ، فَقَد كَانَ يَرُدُّ القَرضَ بِخَيرٍ مِنهُ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَلم يَكُنْ يَترُكُ صَاحِبَ القَرضِ يَمضِي إِلاُّ وَهُوَ رَاضٍ عَنهُ، في البُخارِيِّ عن أبي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه أَنَّ رَجُلاً أَتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، فقال رَسولُ اللهِ: ((أَعطُوهُ))، فقالوا: ما نَجِدُ إِلاَّ سِنًّا أَفضَلَ مِن سِنِّهِ، فقال الرَّجُلُ: أَوفَيتَني أَوفَاكَ اللهُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((أَعطُوهُ؛ فَإِنَّ مِن خِيَارِ النَّاسِ أَحسَنَهُم قَضَاءً)) البُخارِيِّ
لا يدري والله المطلع على هذا الحديث أن يعجب أكثر من البائع، أم من المشتري، أم الحكم ؟ فكل واحد منهم أشد عجباً وأعظم ورعاً من الآخر.
وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة لأمته إلا لتتخلق بمثل هذه الأخلاق الفاضلة، من سماحة ويسر وتتشبه بهؤلاء الثلاثة: البائع، والمشتري، والحكم، وإلا لتتعامل بالصدق وتحفظ الأمانة، وتحرص على الشرف وحسن السمعة، ولا يستحل أحدُنا ما لا يستحقه، فتحصل الثقة، وتحل البركة، ويخف الطمع، ويصح الورع.
ان نبي الله سليمان عليه السلام اشترى الأرضَ التي بنى عليها المسجد الأقصى من رجل، فبعدما لزم البيع قال لصاحب الأرض: اعلم أن أرضك أقيم مما أعطيناك من المال، فهل أنت راضٍ به؟ فما زال الرجل يستزيده ويزيده سليمان إلى أن قنع.
وما فعله سليمان عليه السلام فعله الصحابي حكيم بن حزام، حيث اشترى له غلامه حصاناً بثلاثمائة دينار، فذهب حكيم إلى صاحب الحصان، وقال له: اعلم أن حصانك أقيم عندنا من الثلاثمائة، فاستزاده الرجل فزاده إلى ستمائة دينار.
نحن لا نطمع من إخواننا التجار، والسماسرة، والوسطاء أن يكونوا بهذا الورع، ولكن نطلب منهم فقط تجنب الحرام البين، وتجنب ما نهى عنه صاحب الشريعة في البيع والشراء من السوم على سوم أخيه المسلم، أو البيع على بيعه، ومن النجش، وأن يبيع حاضر لبادٍ، ومن الغرر، والخديعة، ومن الغبن الفاحش والغش الواضح، وعن تطفيف المكيال والميزان، ونحو ذلك من المحرَّمات والمنهيات، والله الموفق إلى كل خير، والهادي إلى سواء السبيل.
ثالثاً : السماحة فيما بين المسلمين
ويكون بعدم التشديد والغلظة في التعامل مع الآخرين فالمسلم لين سهل سمح فليس هو بالفظ ولا بالغليظ و لا بالسباب وقد بين لنا ذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ البَيْعِ، سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ القَضَاءِ» رواه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ " رواه احمد في مسنده
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحاً في تعامله وهو المثل الأكمل في السماحة، يحكي لنا أنس رضي الله عنه ما لاقاه من النبي صلى الله عليه وسلم من حسن المعاملة قَالَ: " خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلَّا صَنَعْتَ " أخرجه البخاري
وروي الامام احمد عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَلْنِي أُعْطِكَ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْظِرْنِي أَنْظُرْ فِي أَمْرِي، قَالَ: " فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ "، قَالَ: فَنَظَرْتُ فَقُلْتُ: إِنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ فَلَا أَرَى شَيْئًا خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ آخُذُهُ لِنَفْسِي لِآخِرَتِي، فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا حَاجَتُكَ؟ "، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْفَعْ لِي إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيُعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ: " مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ "، فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنِّي نَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَرَأَيْتُ أَنَّ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ آخُذَ لِآخِرَتِي، قَالَ: " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ "
ولذلك يقول رسول الله معلما ومربيا لأمته في الحديث الذي رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ » البخارى
يكون السماح حتى مع المخطأ تستره وتسامحه لعله يتوب فقد أخرج أبو الشيخ الأصبهاني في (التوبيخ والتنبيه) و الخرائطي في (مكارم الأخلاق):
عن عمرو بن قيس، عن ثور الكندي، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، " كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه، فوجد عنده امرأة، وعنده خمرا، فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي، إن أكن عصيت الله واحدة، فقد عصيت الله في ثلاث، قال تعالى: ولا تجسسوا، وقد تجسست، وقال الله عز وجل: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، وقد تسورت علي، ودخلت علي من ظهر البيت بغير إذن، وقال الله عز وجل: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، فقد دخلت بغير سلام قال عمر رضي الله عنه: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبدا، قال: فعفا عنه، وخرج وتركه "
و اعلموا عباد الله: أن من مظاهر السماحة في الإسلام السماحة في قضاء حوائج المحتاجين و كشف الكرب عن المكروبين و السعي في مصالح المسلمين فإن الذي يقضي حوائج الناس فينفس كربتهم وييسر على معسرهم ييسر الله عنه في الدنيا والآخرة،
فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: (إنَّ لله تَعَالَى أقْواماً يَخْتَصُّهُمْ بالنِّعَمِ لمنافعِ العباد، ويُقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولَّها إلى غيرِهم) (صحيح الترغيب).
ان القرآن يدعو المجتمع المسلم أن يتصف بالسماحة مع الفقراء و المساكين و اليتامى و من على شاكلتهم فهو يدعو إلى التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء فيقول تعالى: {وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
ويقول جل جلاله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11 - 16])، ويقول تعالى: {كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17، 18].
بل يجعل القرآن من لا يقوم بواجب هذه الفئات مكذبًا بالدين غير مصدق {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1- 3].
و على ذا سار الأصحاب - رضي الله عنهم أجمعين فمن معين القرآن وسنة النبي العدنان ينهلون وتأملوا هذا الموقف لابن عباس - رضي الله عنهما -.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا فُلَانُ أَرَاكَ كَئِيبًا حَزِينًا، قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ، لَا وَحُرْمَةِ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفَلَا أُكَلِّمُهُ فِيكَ، قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَانْتَقلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَنَسِيتُ مَا كُنْتَ فِيهِ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ وَبَلَغَ فِيهَا كَانَ خَيْرًا مِنِ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ " (شعب الإيمان).
• رحمك الله يا عمر. حتى الأرامل؟!
ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد الأرامل بالليل يستقي لهن الماء، فرآه طلحة رضي الله عنه ليلة يدخل بيت امرأة. فدخل طلحة على المرأة نهارًا فإذا هي امرأة عمياء مقعدة فقال لها: يا هذه ما يصنع هذا عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى.
فقال طلحة رضي الله عنه: ثكلتك أمك يا طلحة ... عورات عمر تتبع؟ (حلية الأولياء)
رابعا - سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين
فالإسلام لم تقتصر سماحته على المسلمين فحسب، بل شمل غير المسلمين، من اليهود والنصارى، والمشركين، حتى في حالة الحرب، فنهى الإسلام عن قتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، والعجزة، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا بسم اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.
قصة فتح سمرقند وأعظم محاكمة في التاريخ
هذه الحادثة كانت في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز، حيث أرسل أهل سمرقند رسولهم إليه بعد دخول الجيش الإسلامي لأراضيهم دون إنذار أو دعوة، فكتب مع رسولهم للقاضي أنِ احْكُمْ بينهم.
نادى الغلام: يا قتيبة هكذا بلا لقب. فجاء قتيبة وجلس هو وكبير الكهنة أمام القاضي جُمَيْع، ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟
قال: اجتاحنا قتيبة بجيشه، ولم يدعنا إلى الإسلام، ويمهلنا حتى ننظر في أمرنا.
التفت القاضي إلى قتيبة وقال: وما تقول في هذا يا قتيبة؟ قال قتيبة: الحرب خدعة وهذا بلد عظيم، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون، ولم يدخلوا الإسلام ولم يقبلوا بالجزية.
قال القاضي: يا قتيبة، هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟
قال قتيبة: لا، إنما باغتناهم لما ذكرت لك.
قال القاضي: أراك قد أقررت، وإذا أقر المُدَّعَى عليه انتهت المحاكمة. يا قتيبة، ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين، واجتناب الغدر، وإقامة العدل.
ثم قال: قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء، وأن تُترك الدكاكين والدور، وأنْ لا يبق في سمرقند أحدٌ، على أنْ ينذرهم المسلمون بعد ذلك.
لم يصدق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه! فلا شهود ولا أدلة، ولم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، ولم يشعروا إلاّ والقاضي والغلام وقتيبة ينصرفون أمامهم.
وبعد ساعات قليلة سمع أهل سمرقند بجلبة تعلو، وأصوات ترتفع، وغبار يعم الجنبات، ورايات تلوح خلال الغبار. فسألوا، فقيل لهم: إنّ الحكم قد نُفِّذَ، وأنّ الجيش قد انسحب. في مشهدٍ تقشعر منه جلود الذين شاهدوه، أو سمعوا به.
وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم إلا والكلاب تتجول بطرق سمرقند الخالية، وصوت بكاءٍ يُسمع في كل بيتٍ على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم.
ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعات أكثر حتى خرجوا أفواجاً وكبير الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ..
فيا لله ما أعظمها من قصة وما أنصعها من صفحة من صفحات تاريخنا المشرق، أريتم جيشاً يفتح مدينة ثم يشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج؟ والله لا نعلم شبه لهذا الموقف لأمة من الأمم.
وقد زخرت كتب السير والتأريخ بوقائع كثيرة، هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، يرى مرة في السوق شيخًا كبيرًا يسأل الصدقة، وكان يهوديًا من سكان المدينة، فيسأله عن حاله، وإذا بعمر المسلم الإنساني الملهم يقول له: (ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك شيخًا)، وأخذ بيده إلى بيته، فقدم له من طعامه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال أن افرض له ولأمثاله ما يغنيه ويغني عياله. أخرجه أبو عبيد في الأموال
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله في كتابه، فقال عز وجل من قائل عليم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اقرأ في هذه خطبة
أولا – السماحة تعريفها ومعناها
ثانياً : الاسلام يأمرنا بالسماحة في المعاملات
ثالثاً : السماحة فيما بين المسلمين
رابعاً : سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين
الخطبة الأولي
الحمد لله المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا، المتفرد بتصرف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرا وتدبيرا، المتعالي بعظمته ومجده الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، أطلع شمس الرسالة في حالك الظلم سراجا منيرا، ومَنّ بها على أهل الأرض فيَا لها من نعمة لا يستطيعون لها شكورا، وفجر ينابيع الهداية في قلوب من سبقت لهم منه الحسنى تفجيرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكبره تكبيرا الذي لم يزل ولا يزال بجميع المحامد جديرا، وأستعين به استعانة من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، فأبى أكثر الناس إلا كفورا.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وسلم تسليما كثيرا.
اما بعد
فقد حرَصَ الشَّرعُ الحكيمُ على إقامةِ عَلاقاتٍ طيِّبةٍ بينَ المُسلمينَ، فيها التَّكافُلُ والتَّرابطُ والمحبَّةُ والتَّعاونُ والسماحة
وفي الحديث عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: " الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ " صحيح لغيره البخاري في "الأدب المفرد
أولا: السماحة تعريفها ومعناها
تعريف السماحة : عرفها ابن الأثير بأنّ المقصود بها: الجود عن كرم وسخاء
ومعناها أنها صفة من طرف واحد يبذل فيها الشخص ما لا يجب تكرما وتفضلا
روي الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمَحْ، يُسْمَحْ لَكَ» أي: عامِلِ النَّاسَ بالسَّماحةِ والمُساهلةِ؛ يُعامِلْكَ اللهُ بمِثلِه في الدُّنيا والآخِرةِ، والجزاءُ مِن جِنسِ العملِ، والمعنى أنَّ تَسهيلَكَ للعِبادِ يكونُ سَببًا لتَسهيلِ اللهِ لك في الدَّارَينِ، فيُرقِّقُ قُلوبَ العِبادِ لك في الدُّنيا، فيَسمَعوا قَولَكَ، فيكونُ أنفعَ لك ولهم، وقد تكونُ سَماحةُ العبدِ ومُساهلتُه سَببًا لسَماحةِ اللهِ له، ومَغفرتِه له ذُنوبَه، وفَوزِه في الآخِرةِ، كما أخرَجَ الشَّيخانِ عن حُذَيفةَ وأبي مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنهما: "أنَّ رَجُلًا ممَّن كان قَبلكم أتاه ملَكُ المَوتِ ليَقبِضَ نفْسَه، فقال: هل عمِلْتَ خيرًا قَطُّ؟ قال: ما أعلَمُ، قال له: انظُرْ، قال: ما أعلَمُ غيرَ أنِّي كنتُ أُبايِعُ النَّاسَ، فأتجاوَزُهم وأتجاوَزُ عن المُعسِرِ؛ فأدخَلَه اللهُ الجنَّةِ".
وسماحة المسلمين الّتي تبدو في تعاملاتهم المختلفة سواء مع بعضهم أو مع غيرهم من أصحاب الدّيانات الأخرى.
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: «جمع الله عزّ وجلّ في هذه الشّريعة بين كونها حنيفيّة وكونها سمحة. فهي حنيفيّة في التّوحيد. سمحة في العمل»
روي الامام احمد عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَبَكَى. قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَ أُنْزِلَتْ، غَمَّتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَمًّا شَدِيدًا، وَغَاظَتْهُمْ غَيْظًا شَدِيدًا، يَعْنِي، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكْنَا، إِنْ كُنَّا نُؤَاخَذُ بِمَا تَكَلَّمْنَا، وَبِمَا نَعْمَلُ، فَأَمَّا قُلُوبُنَا فَلَيْسَتْ بِأَيْدِينَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، قَالَ: فَنَزلت هَذِهِ الْآيَةُ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] إِلَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ، فَتُجُوِّزَ لَهُمْ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَأُخِذُوا بِالْأَعْمَالِ
ولله در الشافعي حين قال
دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ
وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي
فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ
وَكُن رَجُلاً عَلى الأَهوالِ جَلداً
وَشيمَتُكَ السَماحَةُ وَالوَفاءُ
وَإِن كَثُرَت عُيوبُكَ في البَرايا
وَسَرَّكَ أَن يَكونَ لَها غِطاءُ
تَسَتَّر بِالسَخاءِ فَكُلُّ عَيبٍ
يُغَطّيهِ كَما قيلَ السَخاءُ
وَلا تُرِ لِلأَعادي قَطُّ ذُلّاً
فَإِنَّ شَماتَةَ الأَعدا بَلاءُ
ثانياً - الاسلام يأمرنا بالسماحة في المعاملات
ايّها المسلم ان الدين المعاملة وان البيع تبادُل منافع بين الأفرادِ، هذا يبذلُ سلعتَه، وذا يبذل قيمتَها، ونبيّنا أرشد المسلمَ أن يكونَ متخلِّقًا بخلُق السماحةِ في بيعه وشرائه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى » رواه بن ماجة
وفي مُسنَدِ الإِمَامِ أَحمدَ أَنَّ عُثمَانَ رضي اللهُ عنه اشتَرى مِن رَجُلٍ أَرضًا فَأَبطَأَ عَلَيهِ، فَلقِيَهُ فَقَالَ له: مَا مَنَعَكَ مِن قَبضِ مَالِكَ؟ قال: إِنَّكَ غَبَنتَني؛ فَمَا أَلقَى مِنَ النَّاسِ أَحَدًا إِلاَّ وَهُوَ يَلُومُني، قال: أَوَذَلِكَ يَمنَعُكَ؟ قال: نَعَمْ، قَال: فَاختَر بَينَ أَرضِكَ وَمَالِكَ، ثم قال: قال رسولُ اللهِ: ((أَدخَلَ اللهُ عز وجل الجَنَّةَ رَجُلاً كان سَهلاً مُشتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضِيًا وَمُقتَضِيًا))
وفي صحيحِ مُسلِمٍ أَنَّ صَحَابِيًا يُدعَى أَبَا اليُسرِ قال: كان لي على فُلانِ بنِ فُلانِ الحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيتُ أَهلَهُ فَسَلَّمتُ، فَقُلتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلتُ له: أَينَ أَبُوكَ؟ قال: سَمِعَ صَوتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلتُ: اُخرُجْ إِليَّ فَقَد عَلِمتُ أَينَ أَنتَ، فَخَرَجَ فَقُلتُ: مَا حَمَلَكَ عَلى أَنِ اختَبَأتَ مِنِّي؟ قال: أَنَا وَاللهِ أُحَدِّثُكَ ثم لا أَكذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللهِ أَن أُحَدِّثَكَ فَأَكذِبَكَ، وَأَن أَعِدَكَ فَأُخلِفَكَ، وَكُنتَ صَاحِبَ رَسولِ اللهِ، وَكُنتُ وَاللهِ مُعسِرًا، قال: قُلتُ: آللهِ، قال: الله، قُلتُ: آلله، قال: اللهِ، قُلتُ: آللهِ، قال: اللهِ، قال: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَال: إِنْ وَجَدتَ قَضَاءً فَاقضِني، وَإِلاَّ أَنتَ في حِلٍّ، ثم ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ رَسولَ اللهِ وهو يَقُولُ: ((مَن أَنظَرَ مُعسِرًا أَو وَضَعَ عَنهُ أَظَلَّهُ اللهُ في ظِلِّهِ)).
يقول الشافعي رحمه الله
وَلا تَرجُ السَماحَةَ مِن بَخيلٍ
فَما في النارِ لِلظَمآنِ ماءُ
وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي
وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ
وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ
وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ
إِذا ما كُنتَ ذا قَلبٍ قَنوعٍ
فَأَنتَ وَمالِكُ الدُنيا سَواءُ
وَمَن نَزَلَت بِساحَتِهِ المَنايا
فَلا أَرضٌ تَقيهِ وَلا سَماءُ
وَمِن صُوَرِ السَّمَاحَةِ رَدُّ القَرضِ بِمَا هُوَ أَحسَنُ مِنهُ وَأَفضَلُ، وَإِعطَاءُ المُقرِضِ مَا هُوَ أَكمَلُ وَأَغلَى، وهو خُلُقٌ نَبَوِيٌّ كَرِيمٌ، فَقَد كَانَ يَرُدُّ القَرضَ بِخَيرٍ مِنهُ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَلم يَكُنْ يَترُكُ صَاحِبَ القَرضِ يَمضِي إِلاُّ وَهُوَ رَاضٍ عَنهُ، في البُخارِيِّ عن أبي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه أَنَّ رَجُلاً أَتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، فقال رَسولُ اللهِ: ((أَعطُوهُ))، فقالوا: ما نَجِدُ إِلاَّ سِنًّا أَفضَلَ مِن سِنِّهِ، فقال الرَّجُلُ: أَوفَيتَني أَوفَاكَ اللهُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((أَعطُوهُ؛ فَإِنَّ مِن خِيَارِ النَّاسِ أَحسَنَهُم قَضَاءً)) البُخارِيِّ
لا يدري والله المطلع على هذا الحديث أن يعجب أكثر من البائع، أم من المشتري، أم الحكم ؟ فكل واحد منهم أشد عجباً وأعظم ورعاً من الآخر.
وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة لأمته إلا لتتخلق بمثل هذه الأخلاق الفاضلة، من سماحة ويسر وتتشبه بهؤلاء الثلاثة: البائع، والمشتري، والحكم، وإلا لتتعامل بالصدق وتحفظ الأمانة، وتحرص على الشرف وحسن السمعة، ولا يستحل أحدُنا ما لا يستحقه، فتحصل الثقة، وتحل البركة، ويخف الطمع، ويصح الورع.
ان نبي الله سليمان عليه السلام اشترى الأرضَ التي بنى عليها المسجد الأقصى من رجل، فبعدما لزم البيع قال لصاحب الأرض: اعلم أن أرضك أقيم مما أعطيناك من المال، فهل أنت راضٍ به؟ فما زال الرجل يستزيده ويزيده سليمان إلى أن قنع.
وما فعله سليمان عليه السلام فعله الصحابي حكيم بن حزام، حيث اشترى له غلامه حصاناً بثلاثمائة دينار، فذهب حكيم إلى صاحب الحصان، وقال له: اعلم أن حصانك أقيم عندنا من الثلاثمائة، فاستزاده الرجل فزاده إلى ستمائة دينار.
نحن لا نطمع من إخواننا التجار، والسماسرة، والوسطاء أن يكونوا بهذا الورع، ولكن نطلب منهم فقط تجنب الحرام البين، وتجنب ما نهى عنه صاحب الشريعة في البيع والشراء من السوم على سوم أخيه المسلم، أو البيع على بيعه، ومن النجش، وأن يبيع حاضر لبادٍ، ومن الغرر، والخديعة، ومن الغبن الفاحش والغش الواضح، وعن تطفيف المكيال والميزان، ونحو ذلك من المحرَّمات والمنهيات، والله الموفق إلى كل خير، والهادي إلى سواء السبيل.
ثالثاً : السماحة فيما بين المسلمين
ويكون بعدم التشديد والغلظة في التعامل مع الآخرين فالمسلم لين سهل سمح فليس هو بالفظ ولا بالغليظ و لا بالسباب وقد بين لنا ذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ البَيْعِ، سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ القَضَاءِ» رواه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ " رواه احمد في مسنده
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحاً في تعامله وهو المثل الأكمل في السماحة، يحكي لنا أنس رضي الله عنه ما لاقاه من النبي صلى الله عليه وسلم من حسن المعاملة قَالَ: " خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلَّا صَنَعْتَ " أخرجه البخاري
وروي الامام احمد عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَلْنِي أُعْطِكَ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْظِرْنِي أَنْظُرْ فِي أَمْرِي، قَالَ: " فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ "، قَالَ: فَنَظَرْتُ فَقُلْتُ: إِنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ فَلَا أَرَى شَيْئًا خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ آخُذُهُ لِنَفْسِي لِآخِرَتِي، فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا حَاجَتُكَ؟ "، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْفَعْ لِي إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيُعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ: " مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ "، فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنِّي نَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَرَأَيْتُ أَنَّ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ آخُذَ لِآخِرَتِي، قَالَ: " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ "
ولذلك يقول رسول الله معلما ومربيا لأمته في الحديث الذي رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ » البخارى
يكون السماح حتى مع المخطأ تستره وتسامحه لعله يتوب فقد أخرج أبو الشيخ الأصبهاني في (التوبيخ والتنبيه) و الخرائطي في (مكارم الأخلاق):
عن عمرو بن قيس، عن ثور الكندي، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، " كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه، فوجد عنده امرأة، وعنده خمرا، فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي، إن أكن عصيت الله واحدة، فقد عصيت الله في ثلاث، قال تعالى: ولا تجسسوا، وقد تجسست، وقال الله عز وجل: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، وقد تسورت علي، ودخلت علي من ظهر البيت بغير إذن، وقال الله عز وجل: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، فقد دخلت بغير سلام قال عمر رضي الله عنه: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبدا، قال: فعفا عنه، وخرج وتركه "
و اعلموا عباد الله: أن من مظاهر السماحة في الإسلام السماحة في قضاء حوائج المحتاجين و كشف الكرب عن المكروبين و السعي في مصالح المسلمين فإن الذي يقضي حوائج الناس فينفس كربتهم وييسر على معسرهم ييسر الله عنه في الدنيا والآخرة،
فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: (إنَّ لله تَعَالَى أقْواماً يَخْتَصُّهُمْ بالنِّعَمِ لمنافعِ العباد، ويُقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولَّها إلى غيرِهم) (صحيح الترغيب).
ان القرآن يدعو المجتمع المسلم أن يتصف بالسماحة مع الفقراء و المساكين و اليتامى و من على شاكلتهم فهو يدعو إلى التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء فيقول تعالى: {وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
ويقول جل جلاله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11 - 16])، ويقول تعالى: {كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17، 18].
بل يجعل القرآن من لا يقوم بواجب هذه الفئات مكذبًا بالدين غير مصدق {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1- 3].
و على ذا سار الأصحاب - رضي الله عنهم أجمعين فمن معين القرآن وسنة النبي العدنان ينهلون وتأملوا هذا الموقف لابن عباس - رضي الله عنهما -.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا فُلَانُ أَرَاكَ كَئِيبًا حَزِينًا، قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ، لَا وَحُرْمَةِ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفَلَا أُكَلِّمُهُ فِيكَ، قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَانْتَقلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَنَسِيتُ مَا كُنْتَ فِيهِ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ وَبَلَغَ فِيهَا كَانَ خَيْرًا مِنِ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ " (شعب الإيمان).
• رحمك الله يا عمر. حتى الأرامل؟!
ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد الأرامل بالليل يستقي لهن الماء، فرآه طلحة رضي الله عنه ليلة يدخل بيت امرأة. فدخل طلحة على المرأة نهارًا فإذا هي امرأة عمياء مقعدة فقال لها: يا هذه ما يصنع هذا عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى.
فقال طلحة رضي الله عنه: ثكلتك أمك يا طلحة ... عورات عمر تتبع؟ (حلية الأولياء)
رابعا - سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين
فالإسلام لم تقتصر سماحته على المسلمين فحسب، بل شمل غير المسلمين، من اليهود والنصارى، والمشركين، حتى في حالة الحرب، فنهى الإسلام عن قتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، والعجزة، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا بسم اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.
قصة فتح سمرقند وأعظم محاكمة في التاريخ
هذه الحادثة كانت في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز، حيث أرسل أهل سمرقند رسولهم إليه بعد دخول الجيش الإسلامي لأراضيهم دون إنذار أو دعوة، فكتب مع رسولهم للقاضي أنِ احْكُمْ بينهم.
نادى الغلام: يا قتيبة هكذا بلا لقب. فجاء قتيبة وجلس هو وكبير الكهنة أمام القاضي جُمَيْع، ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟
قال: اجتاحنا قتيبة بجيشه، ولم يدعنا إلى الإسلام، ويمهلنا حتى ننظر في أمرنا.
التفت القاضي إلى قتيبة وقال: وما تقول في هذا يا قتيبة؟ قال قتيبة: الحرب خدعة وهذا بلد عظيم، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون، ولم يدخلوا الإسلام ولم يقبلوا بالجزية.
قال القاضي: يا قتيبة، هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟
قال قتيبة: لا، إنما باغتناهم لما ذكرت لك.
قال القاضي: أراك قد أقررت، وإذا أقر المُدَّعَى عليه انتهت المحاكمة. يا قتيبة، ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين، واجتناب الغدر، وإقامة العدل.
ثم قال: قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء، وأن تُترك الدكاكين والدور، وأنْ لا يبق في سمرقند أحدٌ، على أنْ ينذرهم المسلمون بعد ذلك.
لم يصدق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه! فلا شهود ولا أدلة، ولم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، ولم يشعروا إلاّ والقاضي والغلام وقتيبة ينصرفون أمامهم.
وبعد ساعات قليلة سمع أهل سمرقند بجلبة تعلو، وأصوات ترتفع، وغبار يعم الجنبات، ورايات تلوح خلال الغبار. فسألوا، فقيل لهم: إنّ الحكم قد نُفِّذَ، وأنّ الجيش قد انسحب. في مشهدٍ تقشعر منه جلود الذين شاهدوه، أو سمعوا به.
وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم إلا والكلاب تتجول بطرق سمرقند الخالية، وصوت بكاءٍ يُسمع في كل بيتٍ على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم.
ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعات أكثر حتى خرجوا أفواجاً وكبير الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ..
فيا لله ما أعظمها من قصة وما أنصعها من صفحة من صفحات تاريخنا المشرق، أريتم جيشاً يفتح مدينة ثم يشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج؟ والله لا نعلم شبه لهذا الموقف لأمة من الأمم.
وقد زخرت كتب السير والتأريخ بوقائع كثيرة، هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، يرى مرة في السوق شيخًا كبيرًا يسأل الصدقة، وكان يهوديًا من سكان المدينة، فيسأله عن حاله، وإذا بعمر المسلم الإنساني الملهم يقول له: (ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك شيخًا)، وأخذ بيده إلى بيته، فقدم له من طعامه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال أن افرض له ولأمثاله ما يغنيه ويغني عياله. أخرجه أبو عبيد في الأموال
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله في كتابه، فقال عز وجل من قائل عليم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.