دروس وخواطر الإمام لشهر ذو القعده
درس وخاطرة الثلاثاء
14/5/2024 م 6 شهر ذى القعدة 1445ه
الدرس/ المفس الحقيقي
الخاطرة/دوام محاسبة النفس
الدرس
المفلس الحقيقي
العناصر
1/من طرق النبي صلى الله عليه وسلم في التربيه
التعليم من خلال السؤال
2/المفهوم الصحيح للمفلس؟ ومن هو المفلس الحقيقي
3/ضياع أجر الأعمال بظلم الآخرين والاعتداء عليهم.
الموضوع
عن ابي هريره رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ). رواه مسلم
من طرق النبي صلى الله عليه وسلم في التربيه
التعليم من خلال السؤال
فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد من هذا السؤال: أتدرون من المفلس؟ أراد أن يلفِت أنظار الصحابة رضوان الله عليهم، بل كل أمته، إلى أمر عظيم مهم، وإلى ناحية دقيقة طالما غفل عنها كثير من الناس ولم يفطِنوا لها، هي توضيح مفهوم الإفلاس على حقيقته.
فأجاب الصحابة رضي الله عنهم بما يتبادر للذهن في الدنيا، وبما هو جار في عرفهم وبلغة علمهم، أو كما هو متعارف عليه بين الناس، حيث يعدَّون المفلسَ من لا يملك من المال شيئا، أو مَنْ فقد ثروته وماله، فقالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، حصَروا الإفلاس في المادة فحسب، وجعلوه مقتصرا على المال والمتاع.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام بما أنه يهتم بالحقيقة دون الصورة، وبالواقع دون المظهر.. ينظر الى الإفلاس من زاوية أوسع، فأراد أن يكشف الغطاءَ عن مفهوم جديد للإفلاس، لم يكن معهودًا من قبلُ في حياتهم، ولم يكن يَخْطُرُ في بالهم، ولم تحدِّثْهم به نفوسُهم.
فمن خلال سؤاله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟)، أراد أن يَنقلَهم إلى أبعد من الدنيا وحطامها، ويحول أبصارهم وقلوبهم إلى إفلاس من نوع خطير رهيب.
المفهوم الصحيح للمفلس؟ ومن هو المفلس الحقيقي
يقول النبي صلى الله عليه وسلمإن المفلس من أمتي)، (من أمتي)، فهو من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، المعني بهذه الصفة هو من هذه الأمة ينتسب إليها وليس بعيدا وليس غريبا عنكم معاشر المخاطبين.
(إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة)، وفي حديث آخريأتي بحسنات كالجبال)، يأتي يوم القيامة بحسنات عظيمة، ثروة هائلة من الحسنات، يأتي يوم القيامة بأعمال صالحة من صلاة وصيام وزكاة.. لكنه، (يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا).. كان حاله في هذه الحياة الدنيا، الاعتداء على الناس وظلمهم بشتى أنواع الاعتداء والظلم.
فيوقف يوم الحشر، ويقف حوله خصماؤه الذين كان يظلمهم ويعتدي عليهم إما بلسانه أو بيده، يُوقف ويقف معه غرماؤه في ذلك الموقف الرهيب، كلهم يريدون أخذ حقوقهم التي لم يستطيعوا أخذها في الحياة الدنيا، يقفوا ليُقتص لهم منه، ويأخذوا حقوقهم كاملة في الآخرة.
ولكم أن تتصوروا هذا الموقف، الخصماء يحيطون به من كل مكان، فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بكتفيه، وهذا يقول ظلمني، وآخر يقول شتمني، وذاك يقول اغتابني، وغيره يقول جاورني فأساء جواري، وهذا يقول غشني، وقائل يقول كذب علي... كل الخصماء، كل الذين نالَهم ظلمَه واعتدى عليهم في الحياة الدنيا يحيطون به، وهو متحير من كثرتهم وتشبتهم به، وقد ضعف عن التخلص منهم ومقاومتهم، لا حول له ولا قوة، فيمد عنق الرجاء إلى ربه لعله يخلصه منهم، لكن يقرع سمعه نداء الجبار: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17].
فما أشدَّ حسرتَه في ذلك اليوم إذا وُقف به على بساط العدل، وهو مفلس فقير عاجز مهين لا يقدر على أن يرد حقاً أو يُظهر عذراً، ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التحريم: 7].
ضياع أجر الأعمال بظلم الآخرين والاعتداء عليهم.
(إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ).
تؤخذ منه حسناته التي أتعب فيها عمرَه، وأفنى فيها حياتَه، تؤخذ منه وتنقل إلى خصائمه عوضاً عن حقوقهم، وكلما فرغ واحد من أخذ الحسنات، جاء آخر ليأخذ نصيبه منه، وذلك بالعدل والقِصاص الحق.
فإن فنيت حسناته، حسنات الصلاة انقضت، حسنات الصوم انقضت،
حسنات الزكاة انقضت، كل ما عنده من حسنات انتهي.
الحصون والمدرعات التي ظن في الحياة الدنيا أنه بناها ليحتمي بها وتقيه عذاب الآخرة انهارت وتحطمت.
فماذا بقي عنده؟ لم تبق عنده ولو حسنة واحدة!!
إنه مصير ذليل، أن يُفني الإنسان عمره في جمع الحسنات، ثم يأتي يوم القيامة وقد ذهبت إلى خصماءه ولم يبق له منها أي شيء.
الحسنات نفذت، وما زال هنالك من الخصماء الذين أساء إليهم واعتدى عليهم قيد حياته من لم يأخد حقه منه، يقول النبي صلى الله عليه وسلمفَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ).
يأُخذ من خطايا الخصماء وسيئاتهم، فتطرح عليه كلها فلا يستطيع لها دفعا، ولا منها فكاكا ولا هربا، ثم يطرح في النار.
وهذا هو الإفلاس الحقيقي،
الخاطرة
دروس وخواطر الإمام لشهر ذو القعده
درس وخاطرة الثلاثاء
14/5/2024 م 6 شهر ذى القعدة 1445ه
تحت عنوان
دوام محاسبة النفس
أن يتصفح الإنسان عمله، وينظر في أقواله وأفعاله وجميع ما يصدر منه أولا بأول.. فإن وجد خيرا محمودا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن وجده شرا مذموما استدركه إن أمكن، وتاب منه واستغفر، وانتهى عن مثله في المستقبل.
يقول تعالى:
. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر:18].
. وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء:47].
. وقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[الكهف:49].
. وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
. وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة:6 - 8].
. وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه}[آل عمران:30].
. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}[البقرة:235].
. وقوله: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[البقرة:281].
فبهذه الآيات استدل أرباب البصائر على أن الله تعالى لعملهم بالمرصاد، قد أحصاه عليهم كله وعده عليهم عدا، وأنهم موقوفون بين يديه يناقشون الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات واللفظات، فتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة، ومؤاخذة النفس في أنفاسها وحركاتها ومحاسبتها على خطراتها ولحظاتها وخطواتها ولفظاتها وكل أعمالها.
وهذا فعل الأكياس أهل الفطنة وأصحاب العقول كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : [الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني](رواه الترمذي وحسنه).
وقد أخبرنا صلوات الله عليه وسلامه أننا محاسبون على كل شيء "كل شيء"، فقال: [لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه].
فكان لزاما أن يعلم الواحد منا أنه موقوف بين يدي الله ومسؤول، وحق لمن علم أنه موقوف ومسؤول أن يعد للسؤال جوابا وللجواب صوابا.
كما قال الفضيل بن عياض لرجل: "كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله تُوشِك أن تَصِل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: يا أخي، هل عرفتَ معناه، قال الرجل: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي، مَن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه، ومَن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومَن عرف أنه مسؤول فليُعدَّ للسؤال جوابًا،... "(حلية الأولياء).
ولا يمكن أن يكون هذا إلا بالمحاسبة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا".
فضيلة الشيخ طاهر ابو المجد احمد
كبير أئمة شبرا الخيمة شرق القليوبية
جامعة الأزهر قسم العقيدة والفلسفة
درس وخاطرة الثلاثاء
14/5/2024 م 6 شهر ذى القعدة 1445ه
الدرس/ المفس الحقيقي
الخاطرة/دوام محاسبة النفس
الدرس
المفلس الحقيقي
العناصر
1/من طرق النبي صلى الله عليه وسلم في التربيه
التعليم من خلال السؤال
2/المفهوم الصحيح للمفلس؟ ومن هو المفلس الحقيقي
3/ضياع أجر الأعمال بظلم الآخرين والاعتداء عليهم.
الموضوع
عن ابي هريره رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ). رواه مسلم
من طرق النبي صلى الله عليه وسلم في التربيه
التعليم من خلال السؤال
فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد من هذا السؤال: أتدرون من المفلس؟ أراد أن يلفِت أنظار الصحابة رضوان الله عليهم، بل كل أمته، إلى أمر عظيم مهم، وإلى ناحية دقيقة طالما غفل عنها كثير من الناس ولم يفطِنوا لها، هي توضيح مفهوم الإفلاس على حقيقته.
فأجاب الصحابة رضي الله عنهم بما يتبادر للذهن في الدنيا، وبما هو جار في عرفهم وبلغة علمهم، أو كما هو متعارف عليه بين الناس، حيث يعدَّون المفلسَ من لا يملك من المال شيئا، أو مَنْ فقد ثروته وماله، فقالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، حصَروا الإفلاس في المادة فحسب، وجعلوه مقتصرا على المال والمتاع.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام بما أنه يهتم بالحقيقة دون الصورة، وبالواقع دون المظهر.. ينظر الى الإفلاس من زاوية أوسع، فأراد أن يكشف الغطاءَ عن مفهوم جديد للإفلاس، لم يكن معهودًا من قبلُ في حياتهم، ولم يكن يَخْطُرُ في بالهم، ولم تحدِّثْهم به نفوسُهم.
فمن خلال سؤاله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟)، أراد أن يَنقلَهم إلى أبعد من الدنيا وحطامها، ويحول أبصارهم وقلوبهم إلى إفلاس من نوع خطير رهيب.
المفهوم الصحيح للمفلس؟ ومن هو المفلس الحقيقي
يقول النبي صلى الله عليه وسلمإن المفلس من أمتي)، (من أمتي)، فهو من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، المعني بهذه الصفة هو من هذه الأمة ينتسب إليها وليس بعيدا وليس غريبا عنكم معاشر المخاطبين.
(إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة)، وفي حديث آخريأتي بحسنات كالجبال)، يأتي يوم القيامة بحسنات عظيمة، ثروة هائلة من الحسنات، يأتي يوم القيامة بأعمال صالحة من صلاة وصيام وزكاة.. لكنه، (يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا).. كان حاله في هذه الحياة الدنيا، الاعتداء على الناس وظلمهم بشتى أنواع الاعتداء والظلم.
فيوقف يوم الحشر، ويقف حوله خصماؤه الذين كان يظلمهم ويعتدي عليهم إما بلسانه أو بيده، يُوقف ويقف معه غرماؤه في ذلك الموقف الرهيب، كلهم يريدون أخذ حقوقهم التي لم يستطيعوا أخذها في الحياة الدنيا، يقفوا ليُقتص لهم منه، ويأخذوا حقوقهم كاملة في الآخرة.
ولكم أن تتصوروا هذا الموقف، الخصماء يحيطون به من كل مكان، فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بكتفيه، وهذا يقول ظلمني، وآخر يقول شتمني، وذاك يقول اغتابني، وغيره يقول جاورني فأساء جواري، وهذا يقول غشني، وقائل يقول كذب علي... كل الخصماء، كل الذين نالَهم ظلمَه واعتدى عليهم في الحياة الدنيا يحيطون به، وهو متحير من كثرتهم وتشبتهم به، وقد ضعف عن التخلص منهم ومقاومتهم، لا حول له ولا قوة، فيمد عنق الرجاء إلى ربه لعله يخلصه منهم، لكن يقرع سمعه نداء الجبار: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17].
فما أشدَّ حسرتَه في ذلك اليوم إذا وُقف به على بساط العدل، وهو مفلس فقير عاجز مهين لا يقدر على أن يرد حقاً أو يُظهر عذراً، ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التحريم: 7].
ضياع أجر الأعمال بظلم الآخرين والاعتداء عليهم.
(إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ).
تؤخذ منه حسناته التي أتعب فيها عمرَه، وأفنى فيها حياتَه، تؤخذ منه وتنقل إلى خصائمه عوضاً عن حقوقهم، وكلما فرغ واحد من أخذ الحسنات، جاء آخر ليأخذ نصيبه منه، وذلك بالعدل والقِصاص الحق.
فإن فنيت حسناته، حسنات الصلاة انقضت، حسنات الصوم انقضت،
حسنات الزكاة انقضت، كل ما عنده من حسنات انتهي.
الحصون والمدرعات التي ظن في الحياة الدنيا أنه بناها ليحتمي بها وتقيه عذاب الآخرة انهارت وتحطمت.
فماذا بقي عنده؟ لم تبق عنده ولو حسنة واحدة!!
إنه مصير ذليل، أن يُفني الإنسان عمره في جمع الحسنات، ثم يأتي يوم القيامة وقد ذهبت إلى خصماءه ولم يبق له منها أي شيء.
الحسنات نفذت، وما زال هنالك من الخصماء الذين أساء إليهم واعتدى عليهم قيد حياته من لم يأخد حقه منه، يقول النبي صلى الله عليه وسلمفَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ).
يأُخذ من خطايا الخصماء وسيئاتهم، فتطرح عليه كلها فلا يستطيع لها دفعا، ولا منها فكاكا ولا هربا، ثم يطرح في النار.
وهذا هو الإفلاس الحقيقي،
الخاطرة
دروس وخواطر الإمام لشهر ذو القعده
درس وخاطرة الثلاثاء
14/5/2024 م 6 شهر ذى القعدة 1445ه
تحت عنوان
دوام محاسبة النفس
أن يتصفح الإنسان عمله، وينظر في أقواله وأفعاله وجميع ما يصدر منه أولا بأول.. فإن وجد خيرا محمودا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن وجده شرا مذموما استدركه إن أمكن، وتاب منه واستغفر، وانتهى عن مثله في المستقبل.
يقول تعالى:
. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر:18].
. وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء:47].
. وقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[الكهف:49].
. وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
. وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة:6 - 8].
. وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه}[آل عمران:30].
. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}[البقرة:235].
. وقوله: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[البقرة:281].
فبهذه الآيات استدل أرباب البصائر على أن الله تعالى لعملهم بالمرصاد، قد أحصاه عليهم كله وعده عليهم عدا، وأنهم موقوفون بين يديه يناقشون الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات واللفظات، فتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة، ومؤاخذة النفس في أنفاسها وحركاتها ومحاسبتها على خطراتها ولحظاتها وخطواتها ولفظاتها وكل أعمالها.
وهذا فعل الأكياس أهل الفطنة وأصحاب العقول كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : [الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني](رواه الترمذي وحسنه).
وقد أخبرنا صلوات الله عليه وسلامه أننا محاسبون على كل شيء "كل شيء"، فقال: [لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه].
فكان لزاما أن يعلم الواحد منا أنه موقوف بين يدي الله ومسؤول، وحق لمن علم أنه موقوف ومسؤول أن يعد للسؤال جوابا وللجواب صوابا.
كما قال الفضيل بن عياض لرجل: "كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله تُوشِك أن تَصِل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: يا أخي، هل عرفتَ معناه، قال الرجل: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي، مَن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه، ومَن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومَن عرف أنه مسؤول فليُعدَّ للسؤال جوابًا،... "(حلية الأولياء).
ولا يمكن أن يكون هذا إلا بالمحاسبة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا".
فضيلة الشيخ طاهر ابو المجد احمد
كبير أئمة شبرا الخيمة شرق القليوبية
جامعة الأزهر قسم العقيدة والفلسفة