الكتاب والسنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الكتاب والسنة

كل شيء يكون وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم


    جبر الخواطر، وأثره على الفرد والمجتمع الجمعة 28 من رجب 1445هـ الموافق 9 من فبراير 2024م =================================

    الشيخ طاهر ابو المجد احمد
    الشيخ طاهر ابو المجد احمد
    Admin


    المساهمات : 2679
    تاريخ التسجيل : 01/12/2012
    العمر : 58
    الموقع : https://www.facebook.com/groups/183512361669940/

    جبر الخواطر، وأثره على الفرد والمجتمع الجمعة 28 من رجب 1445هـ الموافق 9 من فبراير 2024م ================================= Empty جبر الخواطر، وأثره على الفرد والمجتمع الجمعة 28 من رجب 1445هـ الموافق 9 من فبراير 2024م =================================

    مُساهمة  الشيخ طاهر ابو المجد احمد الأحد فبراير 04, 2024 9:48 pm

    جبر الخواطر، وأثره على الفرد والمجتمع
    الجمعة 28 من رجب 1445هـ الموافق 9 من فبراير 2024م
    =================================
    أولا: العناصر:
    1. دعوة الإسلام لمكارم الأخلاق، ومنها (جبر الخواطر)، وبيان ماهيته.
    2. نماذج من جبر الخواطر في القرآن الكريم.
    3. نماذج من جبر الخواطر في السنة النبوية المطهرة.
    4. الخطبة الثانية: (من أثر جبر الخواطر على الفرد والمجتمع).
    ================================
    ثانيا: الموضوع:
    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صادق الوعد الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد أيها الأحبة الكرام:
    =================================
    (1) ((دعوة الإسلام لمكارم الأخلاق، ومنها جبر الخواطر، وبيان ماهيته))
    ================================
    فإن ديننا الإسلامي هو دين المثل والقيم والأخلاق، وقد حثنا القرآن في كثير من سوره وآياته، وكذلك السنة النبوية في كثيرٍ من أحاديثها على التحلي والتجمل والتزين بمكارم الأخلاق، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول الحق تبارك وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ). قالوا: ما هن يا نبي الله، بأبي أنت وأمي؟. قال: (تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتَعْفُو عَنْ مَنْ ظَلَمَكَ). قال: فإذا فعلت هذا فما لي يا نبي الله؟. قال: (يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ)(رواه البزار، والحاكم).
    =====
    ومن الأخلاق العظيمة، والمبادئ القويمة التي حثتنا الشريعة الإسلامية على التحلي بها ما يعرف بـــ (جبر الخواطر)، والخاطر في اللغة: قد يطلق ويراد به البديهة، ومنه قولنا: سريع الخاطر، أي: سريع البديهة (ذهنه حاضر في الرد والإجابة)، ويطلق ويراد به: الفكر، والعقل، والنفس، والقلب، ومنه قولنا: وقع في خاطري، أي: في فكري وعقلي ونفسي وقلبي، وقيل: بل هو ما يقع في هذه الأشياء، عفوا من غير تعمد لإحضارها، ولا يكون له استقرار في النفس.
    والمراد بجبر الخاطر في شريعتنا الإسلامية الغراء: تطييب الإنسان، ورفع حالته المعنوية، وإسعاده، بإجابة طلبه إذا كان له طلب، وبتعزيته ومواساته إذا حلت به مصيبة، وبإزالة انكساره وارضائه واكرامه إذا أصابه ونزل به ما يسقط كرامته. فجبر الخواطر نوعٌ من أنواع الإحسان إلى الغير.
    ==========================
    (2) ((نماذج من جبر الخواطر في القرآن الكريم)
    ==========================
    ولو تأملنا أحبتي في الله في كتاب الله (عزّ وجلّ) لوجدنا نماذج عديدة لهذا الخلق العالي الرفيع، فمن النماذج القرآنية لذلك، تطييب الحق تبارك وتعالى لخاطر النبي (صلى الله عليه وسلم): فبعد أن نزل الوحي على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غار حراء؛ انقطع هذا الوحي لفترة من الزمن ليسترد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) أنفاسه مما حدث له من رؤية جبريل (عليه السلام)، وما عراه من الهول والفزع لأول لقاء بين بشر وملك، وليحصل للنبي الشوق إلى لقاء جبريل بعد هذه الفترة، حتى أدعت قريش أن ربّ محمد قد ودعه وقلاه (كرهه وبغضه).
    فنزلت سورة (والضحى) جبرًا لخاطر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإزالة لانكساره، وردًّا على الكفرة والمشركين، ومبينةً وموضحةً مكانةً النبي (صلى الله عليه وسلم) عند ربه حيث أقسم سبحانه بوقت الضحى (ارتفاع الشمس واشتداد حرارتها)، وأقسم بالليل إذا ذهب بظلامه، أنه ما ودّع محمدًا وما قلاه (أبغضه)، والله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء على ما شاء، فقال تعالى: {وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى*مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى:1ـ3].
    ثم انظروا إلى التعبير القرآني المنبئ عن مكانة النبي (صلى الله عليه وسلم) عند ربه، المعلم لنا الأدب مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، فخالف السياق الوارد قبله حيث حذف مفعول قلى (أبغض وكره) المراد به النبي (صلى الله عليه وسلم)، مع أن (كاف الخطاب) المراد بها النبي (صلى الله عليه وسلم) ذكرت مع الفعل (ودّع)، قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى:3].
    ثم تبشر السورة الكريمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بشارة أخروية عظيمة، فيقول تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى:5]، فقد قرأ النبي (صلى الله عليه وسلم) قول الله (عزّ وجلّ) في إبراهيم (عليه السلام): {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}[إبراهيم:36] الْآيَةَ، وقرأ قول عيسى (عليه السلام): {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي)، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ): (يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟). فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ)، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: (يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ)(رواه مسلم)، وعن علي (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (أَشْفَعُ لِأُمَّتِي حَتَّى يُنَادِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَأَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ رَضِيتُ)(حلية الأولياء).
    ومن العطاء المرضي أيضًا لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن تفسيره ما جاء في سورة الشرح بعد سورة الضحى، قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ*وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ*الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ*وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ*فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:1ـ6].
    ======
    تطييب الحق تبارك وتعالى لخاطر عباده المؤمنين: فقد اشتكى الصحابة (رضوان الله عليهم) لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما أصابهم ونزل بهم في غزوة أحد من الجراحات وفقد سبعين من الأحبة، والاعتداء على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى كاد أن يفتك به المشركون، فنزل قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:140]، فكانت هذه الآية تعزية لهم، وجبرًا وتطيبا لخاطرهم، فالله (عزّ وجلّ) يقول لهم: إن مستكم الجراح والآلام وفقد الأحبة في غزوة أحد؛ فقد مسّ الكفرة والمشركين مثلها في غزوة بدر، وهكذا تدور الأيام بالناس، فالحياة ليست كلها سراء، وليست كلها ضراء، والحكمة في ذلك: تبين صادق الإيمان من كاذبه، وإكرامُ أقوامٍ بالشهادة.
    ======
    وانظروا مرة ثانية للحق تبارك وتعالى وهو يطيب خاطر امرأة ويجبره: إنها أم موسى (عليه السلام) فبعد أن ألقى الله في قلبها أن تُرضع موسى (عليه السلام) وتلقيه في نهر النيل خوفًا على حياته من جنود الفرعون الذين كانوا يقتلون مواليد بني إسرائيل؛ إذا بالحق تبارك وتعالى يربط على قلبها، ويطيب خاطرها، فيقول: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:9]، فقد أمرها الحق تبارك وتعالى بأمرين، فقال: (أرضعيه) و (ألقيه)، ونهاها عن أمرين، فقال: (لا تخافي) و (لا تحزني)، وربط على قلبها، وجبر بخاطرها، وأزال حزنها ببشارتين، فقال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}، لن يقتل، ولن يغيب عنك، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وسيترعرع، ويبلغ أشده حتى يكون نبيًا من المرسلين.
    =====
    وانظروا لهذا المثال النادر من جبر الخاطر من موسى (عليه السلام)، فقد جبر بخاطر فتاتين من أهل مدين وقام بسقي أغنامهما، راحمًا إياهما من مزاحمة ومخالطة الرجال، بعد أن سار على قدميه ثمانية أيامٍ هربًا من مصر بعد قتله القبطي، وكاد أن يهلك من شدة الجوع والعطش، فيقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير*فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:24،23].
    =====
    وانظروا مرة خامسة لهذا الرجل الصالح، ذي القرنين، وهو يجيب ويلبي طلب قومٍ ضعفاء، جابرًا بخاطرهم، مطيبًا لأنفسهم، ففي رحلته إلى شمال الكرة الأرضية (منطقة البلقان اليوم في قارة أوربا) وجد قومًا بين سدين لا يفقهون كلام أحدٍ ولا يفقه أحدٌ كلامهم، فعرضوا عليه أجرًا مقابل أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًا وحاجزًا فلا يصلون إليهم ويتجنبوا به شرهم وإفسادهم، فقالوا بواسطة مترجم: {يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[الكهف:94]، فردّ عليهم ذو القرنين جابرًا لخاطرهم ومجيبًا لطلبهم، مستعينًا بالله (عزّ وجلّ)، وداعيًا لهم إلى الإيجابية والعمل معه، والتفاعل مع مشكلات وطنهم، فقال كما يقصُّ القرآن الكريم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا*فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[الكهف:95ـ97].
    =============================
    (3) ((نماذج من جبر الخواطر في السنة النبوية المطهرة))
    =============================
    وكما جاء القرآن الكريم مليئًا بنماذج جبر الخاطر كذلك جاء السنة النبوية المطهرة، فها هو النبي (صلى الله عليه وسلم) يجبر خاطر طفلٍ صغير ويعزيه ويواسيه في موت طائره الصغير الذي كان يلعب به، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير وكان له نغر (طائر يشبه العصفور أحمر المنقار، وقيل: هو العصفور نفسه صغير المنقار أحمر الرأس، وقيل: هو ما يسميه أهل المدينة البلبل) يلعب به، فمات، فدخل عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم فرآه حزينا، فقال: (مَا شَأْنُهُ؟). أي: ما حاله وما وجه كونه حزين. قالوا: مات نغره، فقال: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟)، أي: ماذا جرى له حيث لم أره معك؟ (رواه أبو داود).
    ======
    النبي (صلى الله عليه وسلم) والأنصار، فبعد غزوة حنين التي كانت في العام الثامن الهجري جلس النبي (صلى الله عليه وسلم) يوزع الغنائم، فأعطى المؤلفة قلوبهم (قريبي العهد بالإسلام)، ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا (حزنوا وتغيرت نفوسهم لذلك) إذ لم يصبهم ما أصاب الناس (من الغنيمة)، فخطبهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، جابرًا لخاطرهم، مذهبًا لحزنهم ووجدهم، ومطيبًا لأنفسهم، فقال: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي) ... (لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا (أي: ذكر دورهم في الهجرة وخدمة الدعوة ونصرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلَى رِحَالِكُمْ، لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ)(متفق عليه).
    ======
    النبي (صلى الله عليه وسلم) وسفانة بنت حاتم الطائي، ففي العام التاسع الهجري قدم سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بسبايا طيئ على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فدخلت سفانة بنت حاتم الطائي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار (ما يتعلق بالأرض والعرض)، ويفك العاني (الأسير)، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طيئ. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جابرًا لخاطرها، مطيبًا لنفسها، مجيبًا لطلبها: (يَا جَارِيَة هَذِه صفة الْمُؤمن حَقًا لَو كَانَ أَبوك إسلاميا لترحمنا عَلَيْهِ خلوا عَنْهَا فَإِن أَبَاهَا كَانَ يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق وَالله تَعَالَى يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق)(نوادر الأصول، وشعب الإيمان).
    ======
    النبي (صلى الله عليه وسلم) وجبر خاطر السائل: فعن سهل بن سعد (رضي الله عنه)، قال: جاءت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ببردة (ثوب يشبه العباءة اليوم)، فقالت: يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النبي (صلى الله عليه وسلم) محتاجا إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه، فاكسنيها، فقال: (نَعَمْ). فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) أخذها محتاجا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي أكفن فيها. (رواه البخاري).
    وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فسأله فقال: (مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَ، وَلَكِنِ اسْتَقْرِضْ حَتَّى يَأْتِينَا شَيْءٌ فَنُعْطِيَكَ). فقال عمر: ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف. قال: فكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قول عمر حتى عرف في وجهه. فقال الرجل: يا رسول الله بأبي وأمي أنت، فأعط ولا تخش من ذي العرش إقلالا، قال: فتبسم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقال: (بِهَذَا أُمِرْتُ)(مسند البزار).
    عباد الله أقول قولي هذا، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
    =================================
    (الخطبة الثانية)
    ((من أثر جبر الخواطر على الفرد والمجتمع))
    =================================
    الحمد لله ربّ العالمين، أعد لمن أطاعه جنات النعيم، وسعر لمن عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    أخوة الإيمان والإسلام: فقد علمنا المقصود والمراد بجبر الخواطر في شريعتنا الإسلامية الغراء، ورأينا نماذج لذلك في كتاب الله (عزّ وجلّ)، وسنة نبينا (صلى الله عليه وسلم)، بقي لنا في تلك الجمعة المباركة أن نعيش مع بعض الآثار التي تعود على الفرد والمجتمع من جبر الخواطر، فأقول:
    =======
    من أثر جبر الخواطر على الفرد: أنه سببٌ في جبر خاطر الإنسان نفسه من الله (عزّ وجلّ)، لأنه سببٌ في معية الله (عزّ وجلّ)، ومدده، وعونه، ونصره، فها هي السيدة خديجة (رضي الله عنها) تشهد على رعاية النبي (صلى الله عليه وسلم) للفئات الضعيفة، وجبره لخاطرها، وتطيبه (صلى الله عليه وسلم) لأنفسها، وأن الله سيجبر بخاطره كما جبر بخاطرهم، فتقول بعد أن فجئه الوحى في غار حار، وعاد لها يرتجف ويرتعد....: (...أَبْشِرْ فَوَ اللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ...)(متفق عليه)، وقد تحققت بشارة السيدة خديجة (رضي الله عنها)، وها هي رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) ودعوته تملأ الأرض شرقًا وغربًا حتى صار أتباعها قرابة المليار وستمائة مليون مسلم.
    ========
    ومنها: غفران الذنوب، وستر العيوب، قال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ مِنَ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ إِدْخَالَكَ السُّرُورَ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ, إِشْبَاعَ جَوْعَتِهِ وَتَنْفِيسَ كُرْبَتِهِ)(مسند الحارث).
    =========
    ومنها: الجزاء العظيم الذي أعده الله لجبر الخواطر في الدنيا والأخرة، قال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ...)(رواه مسلم)، وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرَى مَا كانوا قط وَأَجْوَعَ مَا كَانُوا قَطُّ وَأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ وَأَنْصَبَ مَا كَانُوا قَطُّ فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ كَسَاهُ اللَّهُ وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ سَقَاهُ اللَّهُ وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ أعفاه الله)
    ==========
    ومنها: تثبيت القدمين عند المرور على الصراط يوم القيامة، قال (صلى الله عليه وسلم ): (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ, وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تَدْخِلُهُ عَلَى مُؤْمِنٍ: تَكْشِفُ عَنْهُ كَرْبًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَيْنِ فِي مَسْجِدٍ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رِضًى، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ)(قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا).
    ===========
    ومنها: انتشار الألفة والمودة والمحبة والترابط بين أفراد المجتمع حتى يصيروا كالجسد الواحد، فتختفي النزاعات من المجتمع، وتضمحل الأنانية وحب الذات، ويعم السلام والرخاء، فالجزاء من جنس العمل، وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ يقول: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)(اللفظ لمسلم)
    =========
    ومنها: النجاة من المزالق والمهالك، فمن كان جابرًا للخواطر أدركه الله في جوف المخاطر، وأصدق دليل على ذلك ما كان مع الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فهم أول الناس دعوة لجبر الخواطر وقيامًا بها، وعن أبي بكر (رضي الله عنه): قلت للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: (مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) (متفق عليه)، وانظروا إلى هذا المشهد من قصة موسى (عليه السلام)، قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ*قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ*فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ*وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ*وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:61ـ65].
    ولنا في حديث الرعاة الثلاثة دليل وشاهد على ذلك أيضًا، فقد انطبقت على الغار الذين يبيتون فيه صخرة فسدت عليهم بابه، فلم ييأسوا ولم يقنطوا من الخروج من هذا الغار، فتوسل كل واحد منهم بعمل صالح لله ، ففرج الله عنهم وفتح لهم باب الغار، فكان من توسل أحدهم: (...اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ، مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ، إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، فَقَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ المِائَةَ دِينَارٍ...) (اللفظ للبخاري)، الشاهد أن الرجل جبر خاطر ابنة عمه وترك الاعتداء عليها حينما ذكرته بالله، بعد أن كان متمكنًا من مواقعتها، وترك لها المبلغ المالي، فلما توسل لله بجبر الخاطر هذا نجاه الله ومن معه من الموت في هذا الغار.
    =================================
    فاللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 03, 2024 6:21 am