الكتاب والسنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الكتاب والسنة

كل شيء يكون وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم


    العلم والعمل سبيل نهضة الأمم

    الشيخ طاهر ابو المجد احمد
    الشيخ طاهر ابو المجد احمد
    Admin


    المساهمات : 2679
    تاريخ التسجيل : 01/12/2012
    العمر : 58
    الموقع : https://www.facebook.com/groups/183512361669940/

    العلم والعمل سبيل نهضة الأمم  Empty العلم والعمل سبيل نهضة الأمم

    مُساهمة  الشيخ طاهر ابو المجد احمد الأربعاء يونيو 20, 2018 4:37 am



    العلم والعمل سبيل نهضة الأمم
    العناصر
    1- المقدمة
    2- فضل العلم في القرآن والسنة.
    3- قصة موسى والخضر في طلب العلم .
    4- فضل العمل في القرآن والسنه .
    5- خطر البطالة والتسول .
    6- تأكيد النبي على العمل وطلب الرزق .
    7- صور من عمل النبي صلى الله عليه وسلم .
    8- عمل الأنبياء والصحابة رضي الله عنهم .

    المقدمة
    الحمدُ لله فاطرِ الأرض والسموات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً. وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفَهم ولا يحيطون به علماً. لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار، ولا تتوهّمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنده بمقدار، أتقن كلَّ ما صنعه وأحكمه، وأحصى كلَّ شيء وقدره وخلق الإنسان وعلّمه.
    فلك المحامد والثناء جميعه *** والشكر من قلبي ومن وجدان
    فلأنت أهل الفضل والمنِّ الذي *** لا يستطيع لشكره الثقلان
    أنت القوي وأنت قهار الورى *** لا تعجزنَّك قوة السلطان
    فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوانحي ولساني
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الحق والتزامه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه. وسلم تسليماً كثيراً
    أمَّا بَعْد:
    عباد الله إن لكل أمه أركان تقوم عليها ودعائم تبنى عليها وأهم ما قامت عليها أمتنا العمل والعمل

    يقول تعالى
    قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9
    ويقول قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] لا والله لايستوون أبدا ؟
    فالله يقول: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] ويقول الله لرسوله وهو يأمره أن يتزود من الزاد، فأي زاد يتزود منه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ هل يتزود من الذهب والفضة؟ أو من القصور، أو من الدور؟ لا والله
    يقول الله له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] يا محمد -عليك أفضل الصلاة والسلام- تابع هذا الدعاء صباح مساء مع كل صلاة: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] فإن الطرق تتفتح أمامك، والشهوات تنجلي أمام عينيك، والشبهات تكون أنت على بصيرة منها، والظلمات تتجلى لك: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].

    قصة موسى والخضر
    يقص الله علينا قصة موسى عليه السلام وهو يرتحل في البحر ليلقى الخَضِر عليه السلام، فيتعلم منه علماً، ما كان له أن يعلمه لولا أن وفقه الله لسلوك السبيل الصحيح الموصل إلى هذا العلم، فلسان حال هذه القصة يقول: هكذا فليكن طلب العلم، رحلة طويلة، عناء ومشقة، بحث متواصل، نَفَسٌ طويل وعزيمة قوية، بصر حادٌّ ورؤية فاحصة.

    وإذا كان موسى عليه السلام على سمو قدره، ورفعة مكانته يحرص على طلب العلم، فما بالنا نحن الضعفاء المحاويج الجهلة نفرط في طلب العلم، ولا نسلك السبل الموصلة إليه.

    يشير الإمام البخاري في الصحيح إلى هذه القصة وإلى هذه الرحلة فيقول: باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام ثم يشير الإمام البخاري رحمه الله إلى هذه القصة وإلى سببها فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمارى هو والحُرُّ بن قيس بن حِصْنٍ الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس: هو خَضِر، فمرَّ بهما أبيّ بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيلَ إلى لقيِّه هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدُنا خَضِر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوتَ آية وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه). إلى أن لقيه وكان من أمره ما كان.

    قصة عجيبة يتجلى فيها شرف الرحلة في طلب العلم، وفضل العلم الذي يُضحّى في سبيله بكل نفيس وغالٍ.


    هو العَضْبُ المُهَنَّدُ ليس يَنْبُو
    تُصيبُ به مضاربَ مَنْ أردتَ
    وكنزٌ لا تخاف عليه لصّاً
    خفيفُ الحَمْل يوجدُ حيث كنتَ
    يزيد بكثرة الإنفاق منه
    وينقص إنْ به كفّاً شَدَدْتَ



    موسى الآن يغادر أرض بني إسرائيل من فلسطين ليركب البحر بعد أن ألقى فيهم خطبة عظيمة وبعد أن انتهى قال له أحد بني إسرائيل: يا موسى: هل تعلم من الناس من هو أعلم منك؟ قال: لا والله لا أعلم أحداً أعلم مني، وقد صدق عليه السلام فهو نبي الله ورسوله، وهو لا يعلم احداً أعلم منه، ولكن الله عزَّ وجلَّ عاتبه من فوق سبع سماوات وقال له: يا موسى: الخَضِر في مجمع البحرين أعلم منك فارحل إليه وتزود منه علماً إلى علمك، قال: يا رب وكيف أعرفه إذا لقيته؟ قال: ((يا موسى خذ حوتاً واجعله في مكتل فإذا فقدت الحوت فقد لقيت الخَضِر، فأخذ موسى حوتاً مملوحاً وجعله في مكتل وأخذ غلامه يوشع بن نون يحمل معه الغذاء في السفر، فسارا طويلاً وشقَّ عليهما السير فعندئذٍ قال موسى لفتاه: ﴿ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ [الكهف: 60]، أي لا أزال سائراً إلى مجمع البحرين وهو المكان الذي سوف أجد فيه مَنْ هو أعلم مني، حتى ولو سرت حقباً من الزمان. ﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً ﴾ [الكهف: 61).

    سار موسى وفتاه حتى بلغا مجمع البحرين فنام موسى وفتاه من شدة التعب والإرهاق، أما الحوت فقد أصابه رشاش من ماء عين هناك تسمى عين الحياة فاضطرب وانتفض وقفز من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام، وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء وهو ينظر إليه ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ً ﴾ [الكهف: 62]، أي المكان الذي نسيا الحوت فيه ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف: 62] أي تعباً، فقد تعب، عليه السلام، فأراد أن يستريح قليلاً حتى يستمر في مواصلة الرحلة المضنية قال يوشع: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً ﴾ [الكهف: 63]، فلا طعام ولا غداء، فالحوت الميت قد تحرك وانطلق إلى سبيله في مشهد عجيب: ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ [الكهف: 64]، أي هذا الذي نطلب: ﴿ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ [الكهف: 64]، أي رجعً يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما، ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾ [الكهف: 65]، وهذا العبد هو الخضر عليه السلام وجده موسى عليه السلام عند الصخرة مُسَجًّى بثوب، فسلم عليه فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام. فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قد أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً.

    ووصف الله عزَّ وجلَّ الخضر بأنه آتاه الرحمة وعلمه العلم، وهذه هي الغاية التي لا يدركها إلا القليل، فَعِلْمٌ بلا رحمة قسوة وجبروت، ورحمة بلا علم جهل وتردي، فجمع الله للخضر الاثنين؛ الرحمة والعلم، ليكون قدوة لموسى عليه السلام، قال له موسى: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾ [الكهف: 66]، سؤال تلطف لا على وجه الإلزام، وهذا من حسن أدبه، عليه السلام، حيث أنزل نفسه منزلة التلميذ الذي يريد أن يتعلم من أستاذه، فقال الخضر: ﴿ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾[الكهف: 67]، مع أنه يعرف قوة موسى عليه السلام، وشدة عزيمته في طلبه العلم، ثم قال له: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾ [الكهف: 68]، فأنا أعرف أنك سوف تنكر عليَّ ما أنت معذور فيه، لأنك لم تطلع على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطّلعت عليها أنا دونك، فردَّ موسى عليه السلام:﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً ﴾ [الكهف: 70]سوف أصبر على ما أرى منك من أمور ولن أخالفك في شيء أبدا فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام: ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾ [الكهف: 70]، إياك أن تسألني عن شيء قبل أن أبدأك أنا به، فاتفقا على ذلك، وانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى بلغا مجمع البحرين، ومر عصفور فنزل حتى شرب من الماء، ثم انطلق فقال الخضر لموسى عليهما السلام: كم ترى هذا العصفور نقص من هذا الماء؟ فأجاب موسى: ما أقل ما نقص!! فقال الخضر: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما نقص هذا العصفور من هذا الماء.

    وبينا هما يمشيان على ساحل البحر، إذ مرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر بنوره ووقاره فحملوهم بغير أجرٍ، فركبوا في السفينة، فكان أول ما فعل الخضر أن بدأ يقلع في ألواح السفينة مما يعرضها للغرق، فاندهش موسى عليه السلام، وقال منكراً عليه: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ﴾ [الكهف: 71] مع أنهم حملونا بغير نول ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾ [الكهف71]، شيئاً عجباً، فاعترض موسى عليه السلام؛ لأنه ما كان ليسكت على هذا الأمر المخالف لشريعته، ولكن الخضر عليه السلام ذكره بالشرط الذي بينهما: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ [الكهف: 72]، لأن ما فعلته من الأمور التي اشترطت عليك ألا تنكر عليَّ فيها، وهو أيضاً من الأمور التي تحتوي على مصلحة لم تعلمها أنت ولم تحط بها خبراً. فقال موسى مستحياً: ﴿ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ [الكهف: 73]، أي لا تضيق عليَّ ولا تشدد عليَّ وقد ورد أن هذه المرة كانت من موسى عليه السلام، نسياناً.

    خرج موسى والخضر، عليهما السلام، من السفينة وبينما هما يمشيان على الساحل إِذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فتقدَّم إليه وصرعه على الأرض ثم أخذ رأسه فاقتلعه بيده فقتله، فصرخ موسى: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾ [الكهف: 74]، أتقتل نفساً صغيرة لم تعمل إثماً قط بغير مستندٍ لقتلها، إن هذا الأمر منكر ظاهر النكارة، فما كان من الخضر عليه السلام، إلا أن أعاد عليه الشرط الذي بينهما: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً ﴾ [الكهف: 75]، فأتى بالجار والمجرور تأكيداً على التذكار بالشرط الأول، فاستحى موسى عليه السلام، مرة ثانية وقال في هذه المرة: ﴿ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً ﴾ [الكهف: 76]، أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة فلا تصاحبني بعدها، لأنك قد أعذرت إليَّ مرة بعد مرة، وهذه الثانية.

    وتبدأ القضية الثالثة وفيها يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا ﴾ [الكهف: 77]، مرَّ موسى والخضر على قرية بخيلة لا تطعم ضيفاً ولا تسقي ظمآناً، ولا ترحب بوافدٍ، ومن شدة بخل هذه القرية أن طلب موسى والخضر الطعام فأبوا وهذا من أعظم اللؤم وأشد درجات البخل:
    إني نزلتُ بكذا بين ضيفَهم
    عن القِرَى وعن الترحال مطرودُ
    جودُ الرجال من الأيدي وجودُهُمُ
    من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ

    امتنعت بيوت هذه القرية أن تضيف هذين الرجلين الصالحين: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾ [الكهف: 77]، نزلا في مكان، في سكة من السكك، فوجدا جداراً مائلاً يكاد أن يسقط، فرده الخضر إلى حاله من الاستقامة، فعند ذلك قال له موسى عليه السلام: ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ [الكهف: 77]، إن هذه القرية أبت أن تضيفنا، فلا هم أطعمونا ولا سقونا ولا آوونا، ثم تأتي أنت فتبني جدارها مجاناً بدون أجر أما الذين أركبونا في سفينتهم بلا عطية ولا أجر فكان جزاؤهم أن عمدت إلى تخريب سفينتهم، فقال له الخضر: ﴿ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾ [الكهف: 78]، لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني فهذا فراق بيني وبينك: ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ [الكهف: 78]، سوف أخبرك بتفسير ما أنكرته عليَّ من أمور لتعلم أن هناك حكماً باطنة لا تعلمها أنت، قد أطلعني الله عزَّ وجلَّ عليها.


    وقبل أن يفارق الخضر موسى عليه السلام، وقف معه وقفة يخبره فيها بما أشكل عليه من تصرفات حدثت أثناء مسيرهما معاً، الأمر الذي تحير معه موسى، عليه السلام، وجعله يحتج دائماً وينكر مراراً، حتى بعد أن أخذ على نفسه العهد بألا يحتج ولا يسأل ولا ينكر.

    قال له الخضر:
    ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ [الكهف: 78).

    ♦️ القضية الأولى: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ [الكهف: 79] هذا تفسير القضية الأولى التي أشكلت على موسى عليه السلام، مما خفيت عليه حكمته.

    إن هذه السفينة كانت لبعض المساكين، وكانوا يعملون عليها، ويرزقون بسببها، وعند الشاطئ على الساحل ملك ظالم جبار، يقف لكل سفينة بالمرصاد، فهو يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها، ولذلك عمدت إلى هذه السفينة فأحدثت فيها عيباً يسيراً لا يعطلها، ولا يضرها، حتى لا يلتفت إليها هذا الملك الظالم ويتركها إذا شاهد العيب الذي فيها.

    ♦️ القضية الثانية: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ [الكهف: 80]، وورد أن هذا الغلام طُبع يوم طبع كافراً [4]، وكان أبواه مؤمنين، فخشي الخضر أن يحملهما حُّبه على متابعته على الكفر. قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض كل امرئٍ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحبّ قال تعالى: ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، ثم علل الخضر قتله بقول: ﴿ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ﴾ [الكهف: 81] أي ولداً أزكى من هذا الغلام وهما أرحم به منه، وقيل: لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم.

    ♦️ القضية الثالثة: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ [الكهف: 82]، يقول الخضر: إن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، فلو سقط الجدار لظهر هذا الكنز ولأخذه الناس، فهذا من حفظ الله عزَّ وجلَّ لأبناء العبد الصالح بعد وفاته، ولذلك قال الخضر: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾ [الكهف: 82]، فانظر إلى تقدير رب العزة سبحانه وتعالى كيف حفظ هؤلاء الأبناء بصلاح أبيهم، وفي الغالب أن الأب إذا كان صالحاً كانت ذريته كذلك، وإذا كان فاجراً غلب على ذريته الفجور والفسق. ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ﴾ [الكهف: 82]، وهنا أسند الإرادة إلى الله عزَّ وجلَّ تأدباً مع الله عزَّ وجلَّ حيث أسند ما هو خير محض إلى الله عزَّ وجلَّ وكذلك بلوغ الغلامين الْحُلُم لا يقدر عليه إلا الله عزَّ وجلَّ أما في مسألة السفينة، فقال: ﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ [الكهف: 79]، فنسب الإرادة إلى نفسه لأن ظاهر الفعل الفساد، وإن كان حقيقته غير ذلك.

    ثم بيَّن الخضر بعد ذلك أنه ليس له من الأمر شيء، فقال: ﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: 82]، إن هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، والغلامين اليتيمين، وما فعلته عن أمري ولكني أُمرت به ووقفتُ عليه، ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ [الكهف: 82]، أي تفسير ما ضقتَ به ذرعاً ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداءً.

    أيها المسلمون:
    _________

    هذه هي الرحلة، التي ارتحلها موسى عليه السلام لطلب العلم، باحثاً عن المعرفة، طالباً للحكمة، فهلا حرصنا على طلب العلم، وحضور مجالس العلماء، وهلا اجتهدنا في التفقه في الدين، والاسترشاد بأقوال أهل العلم من فقهاء الأمة الذين هم أهل الحل والعقد عند المسلمين.

    وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وعلمني الله وإياكم العلم النافع، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

    الخطبة الثانية
    _________

    الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى ربهم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


    ♦️ أما بعد:

    قد وجهت الشريعة الإسلامية أفرادها إلى العمل، وحثتهم على التكسب وطلب الرزق، وبينت لهم أن الكسب باليد خيرُ ما يُجمع، وهو سبيل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وحذرت أشد التحذير من الاعتماد على التسول واستجداء الناس والتذلل لهم؛ لما يورثه من المذلة والمهانة في الدنيا والآخرة.
    فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، فيأتي به فيبيعه، فيأكل منه ويتصدق منه، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه))

    فإن الإسلامَ دينُ العملِ والعطاءِ والرِّيادَةِ في شئون الحياة الدنيا، قال تعالى : ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة:105]، وما خوطبت أمةٌ بضرورة الاهتمام بالعملِ قدر ما خُوطِبَتْ أمَّةُ الإسلام، وقد ذلَّلَ اللهُ تعالى الأرض لبني آدم ليكتنزوا ثرواتها بالعمل والجد فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك:15]، وقال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل:14). والمؤمن خليفةُ الله في أرضه

    خطر البطالة والتسول:
    _____________

    ألا تباً لِيَدٍ مترفة ونفسٍ رِخْوَةٍ وعينٍ سبَّاقَةٍ إلى الشَّهواتِ ولسانٍ طليقٍ في الشبهات، لا يحسن إلا خبرة ضياع الأوقاتِ في الحسراتِ، والمقاهي واللعب ووسائل الاتصالٍ التي تُضيِّعُ الأعمارَ سُدى بغيرِ طائلٍ مع نفادِ المالِ وإنفاقِهِ في توافه الأمور.

    فمن فقد العمل فقد دْخل في نفق التسول ومدِّ يَدِ الفقرِ ولسانِ طلبِ العطفِ من النَّاس، وصلى الله وسلم على نبينا الكريم الذي كان يكرهُ للعبد سؤال الناس ما دام قادراً على العمل ويجعل المسألة بلا عملٍ ضرباً من الندم فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما يزالُ الرجلُ يسأَلُ الناسَ، حتى يأتي يومَ القيامةِ ليس في وجهِهِ مُزْعَةُ لحمٍ.. ) (صحيح البخاري 1474)، فماذا يقول من حرفتُهُ التسول التي زادت فنونها وكثر بين الناس طالبوها ومحترفوها وتنوعت قصص المتسولين بين المعقول وضروب الخيال؟، حتى أصبح التسول في القطار والسيارة الخاصة وقارعة الطريق وعلى أبواب المدارس والمساجد والمقاهي والحدائق والمطاعم والأسواق وغيرها، أفواجٌ جديدةٌ تدخل سوق التسول كل يوم كأننا شعبٌ لا عمل لنا.

    وتعمُّ البلوى وتكثر السخيمة وقلة القيمة خصوصاً عند المتخرجين حديثاً من الشباب والذي يختصر أحدهم حياتَهُ من بطالةِ قلبه في النوم إلى ما بعد العصر ثم يقوم بعد تثاؤبٍ طويلٍ إلى طعامه واستهلاكه وربما يغرق في بحور المخدرات والموبقات من سرقةٍ وسطوٍ وزنا وقطع طريق وبلطجةٍ مخيفةٍ للناس لأنه لا يحمل رسالةً في حياته يعيش لها وعنده وقت الفراغ الذي يجب إنفاقه في عمل صالح!! والعيب ليس في تربيته فقط بل العيب فيمن يمده بالمال السهل ويجيب مطالبه ورغائبه، وهل ينتظر من أمثال هؤلاء المتسكعين في بلادنا أن يصنعوا حضارة أو يدفعوا قطار التنمية؟..كلا!.

    إن اليد السفلى قد كثرت في أوطاننا ويجب تحفيزها على الدوام لتكون عليا بالعطاء والعرق والعمل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال، وهو على المنبرِ، وذكرَ الصدقةَ والتَّعَفُّفَ والمسأَلَةَ: اليدُ العُلْيَا خيرٌ من اليدِ السفلى، فاليدُ العليا هي المُنْفِقَةُ، والسفلى هي السائِلَةُ) (صحيح البخاري 1429)

    وقد جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم البديل للفقر والعوز في زمانه الشريف هو العمل، وذاك ما يتصوره الناس أنه أحقر وأشق المهن "الاحتطاب" فقال: (لَأَنْ يأخذَ أحدكم حَبْلَهُ، فيَأْتِي بحِزْمَةِ الحطبِ على ظهرِهِ فيَبيعها، فيَكُفَّ اللهُ بها وجهَهُ، خيرٌ لهُ من أن يسألَ الناسَ، أعطوهُ أو منعوهُ) (صحيح البخاري 1417 عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه)، فعلى الشاب أن يبدأ مسيرة العمل بما تيسر له وأن لا يأنف من أي عمل يبدأ به والله يعينه وسيوفقه إلى عمل أرقى ومنزلة أسمى طالما بدأ، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ثم يسأل الله تعالى فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة".

    بل كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يجعل العمل حلاً دائماً لمشكلة البطالة والحاجة، واستخدم صلى الله عليه وسلم طريقة المزاد الحديثة المعروفة على بعض مما يملك هذا الصحابي ليشتري به أدوات إنتاجه، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه قال: (أن رجلًا من الأنصارِ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسألُه فقال أمَا في بيتِكَ شيءٌ؟ قال بلى حِلْسٌ نلبسُ بعضَه ونَبسطُ بعضَه وقعبٌ نشربُ فيه من الماءِ قال ائتني بهما قال فأتاه بهما فأخذهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده وقال من يشتري هذينِ؟ قال رجلٌ أنا آخذهما بدرهمٍ قال من يزيد على درهمٍ؟ مرتينِ أو ثلاثًا قال: رجلٌ أنا آخذُهما بدرهمينِ فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمينِ وأعطاهما الأنصاريَّ وقال اشترِ بأحدِهما طعامًا فانبِذْهُ إلى أهلِكَ واشترِ بالآخر قدُّومًا فأتني به فأتاه به فشدَّ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيدِه ثم قال له اذهبْ فاحتطبْ وبعْ ولا أَرَينَّكَ خمسةَ عشرَ يومًا فذهب الرجلُ يحتطبُ ويبيعُ فجاء وقد أصاب عشرةَ دراهمَ فاشتَرَى ببعضِها ثوبًا وببعضِها طعامًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خيرٌ لكَ من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهِكَ يومَ القيامةِ إنَّ المسألةَ لا تصلَحُ إلا لثلاثةٍ لذي فقرٍ مُدْقِعٍ أو لذي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أو لذي دَمٍ مُوجِعٍ) (سنن أبي داود1641(.

    ويرسخ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مبدأ ضرورة العمل وأنه باب المغفرة ويوجه أصحابه إلى ذلك قائلاً: (من أمسى كالاًّ من عمل يده بات مغفوراً له) (الطبراني في المعجم الأوسط 7/982، والألباني في السلسلة الضعيفة 2626)، ويؤسس هذه القاعدة الجليلة في المكاسب بقوله صلى الله عليه وسلم: (أطيبُ ما أكَلَ المؤمِنُ من عمَلِ يدِهِ) (ابن الملقن في شرحه للبخاري 20/458 وقال: صحيح).

    بل جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في العمل نوعاً من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى، فعن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: (مرَّ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلٌ فرأَى أصحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جلَدِه ونشاطِه فقالوا يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إن كان خرج يسعَى على ولَدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعَى على نفسِه يعَفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعَى رياءً ومُفاخرةً فهو في سبيلِ الشَّيطانِ) (المنذري في الترغيب والترهيب 3/4 وقال: رجاله رجال الصحيح).

    صور من عمل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المجتمع كله في العمل، لا يأنف من أي عملٍ يَدَويٍّ يقوم به ما دام مشروعاً وذلك في زمانٍ قد أَنِفَ فيه كثيرٌ من الأحرار أن يعملوا لأن ذلك حرف العبيد لديهم، ففي صبا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قد خرج في رحلات متتابعة للتجارة في مال السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها وقبلها كان يخرج في رحلة الشتاء والصيف إلى اليمن أو الشام مع عمه أبي طالب، وقد رعى الغنم في مكة قبل بعثته المباركة، وقال في ذلك: (ما بعث اللهُ نبيًّا إلا رعى الغنمَ. فقال أصحابُه: وأنت؟ فقال: نعم، كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهلِ مكةَ) (صحيح البخاري 2262 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه).

    وفي بناء المسجد النبوي الشريف تتجلى قيمةُ العمل في الإسلام حيث يقوم رأس الدولة ذاته بالعمل في البناء وبذل الجهد بيده ولم يتَّخِذْ له حِجَاباً ولا عُلِّيَّةً من دون البناة وحُمَّال الحجارة بل كان يحمل معهم فلما رأى الأصحاب ما لا مثيل له في قيادات البشرية قالوا:
    لئنْ قَعَدْنَا والنَّبي يعْمَلُ ♦️♦️♦️ لذَاكَ منَّا العَمَلُ المضَلَّلُ

    وكذلك في غزوة الأحزاب كان يمسك المعول بيده الشريفة ويفتت به الحجارة الصماء في شق الخندق، وكان الصحابة الكرام يرونَ الغبار على جلدة بطنه الشريف صلى الله عليه وسلم.

    وفي بيته المبارك حيث تنزلات الملائكة وأنوار العبادة تتجلى قيمة العمل في الإسلام كما روى عروة ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه سأل خالته ام المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بقوله: (قُلْتُ لعائشةَ: يا أمَّ المؤمنينَ أيُّ شيءٍ كان يصنَعُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كان عندَكِ؟ قالت: ما يفعَلُ أحدُكم في مِهنةِ أهلِه يخصِفُ نعلَه ويَخيطُ ثوبَه ويرقَعُ دَلْوَه) (صحيح ابن حبان 5676).

    وقد عمل جمعٌ من أولى العزم من الأنبياء أيضاً في رعي الغنم، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (بُعِثَ موسَى وهوَ راعى غنم، و بُعِثَ إبراهيمُ وهوَ راعى غنَمٍ، و بُعِثْتُ أنا وأنا أرعَى غنمًا لأهلي بأجيادٍ) (الألباني في صحيح الأدب المفرد 449 وقال: حديثٌ صحيحٌ عن عبدة بن حزن رضي الله تعالى عنه).

    وكان لصحابة النبي الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد أعمالٌ هم لها في المهن عاملون، فكان الصديقُ أبو بكر تاجر اقمشة وعمر بن الخطاب دلالاً وعثمان بن عفان تاجراً وعلى بن أبي طالب عاملاً وكان يقول مفتخراً:
    لحملي الصخرَ من قمَمِ الجبالِ
    أحبُّ الىَّ من منن الرِّجَالِ
    يقولُ الناسُ في الكسبِ عارٌ
    فقلتُ العارُ في ذلِّ السُّؤَالِ

    وكان عبد الرحمن بن عوف تاجراً والزبير بن العوام خياطاً وسعد بن ابى وقاص نَبَّالاً أي يصنع النبال وعمرو بن العاص جزاراً وكان ابن مسعود وأبو هريره لديهم مزارع يزرعونها وكان عمار بن ياسر يصنع المكاتل ويضفر الخوص.
    وهكذا كان أصحاب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لهم صنائعٌ وحرفٌ،


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 02, 2024 1:29 pm