الكتاب والسنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الكتاب والسنة

كل شيء يكون وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم


    خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022: آيات الاعتبار في القرآن

    الشيخ طاهر ابو المجد احمد
    الشيخ طاهر ابو المجد احمد
    Admin


    المساهمات : 2662
    تاريخ التسجيل : 01/12/2012
    العمر : 58
    الموقع : https://www.facebook.com/groups/183512361669940/

    خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022:  آيات الاعتبار في القرآن Empty خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022: آيات الاعتبار في القرآن

    مُساهمة  الشيخ طاهر ابو المجد احمد الأربعاء أغسطس 31, 2022 12:27 am

    خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022:
    آيات الاعتبار في القرآن

     
    أولًا: أهميةُ التفكرِ والتدبرِ والاعتبارِ
    ثانيًا: صورُ الاعتبارِ في القرآنِ الكريمِ
    ثالثًا: فاعتبرُوا يا أُولي الأبصار
     
    الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأنَّ مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلم. أمَّا بعدُ
    أولًا: أهميةُ التفكرِ والتدبرِ والاعتبارِ

    لقد بيَّنَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى أنَّ الحكمةَ مِن إنزالِ القرآنِ هي أنْ نتدبرَهُ ونعِي ما فيهِ، ونعملَ بمقتضَاه؛ قالَ تعالَى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29). قالَ القُرطبيُّ: “ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى، وُجُوبِ مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيلَ أَفْضَلُ مِنَ الْهَذِّ [سرعة القراءة]؛ إِذْ لَا يَصِحُّ التَّدَبُّرُ مَعَ الْهَذِّ”.(تفسير القرطبي). وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:” وَاللَّهِ مَا تَدَبُّره بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ؛ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، مَا يُرَى لَهُ القرآنُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ”.(تفسير ابن كثير).
    كما جاءَ  الحديثُ عن تدبرِ القرآنِ الكريمِ مرتبطًا بحالةِ القلبِ، فيقظةُ القلبِ تُعينُهُ على التدبرِ، بينمَا وجودُ أقفالِ الغفلةِ عليهِ مانعٌ مِن ذلك، قالَ تعالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24). قال البيضاويُّ:” {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} يتصفحونَهُ وما فيهِ مِن المواعظِ والزواجرِ حتى لا يجسرُوا على المعاصِي. {أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} لا يصلُ إليهَا ذكرٌ ولا ينكشفُ لها أمرٌ”.( تفسير البيضاوي).
    لذلك اهتمَّ السلفُ الصالحُ – رضي اللهُ عنهم – بتدبرِ القرآنِ والتفكرِ والاعتبارِ بما فيهِ، فعندمَا سُئلتْ والدةُ الصحابيِّ الجليلِ أبو الدرداء-رضي اللهُ عنهما- عن أفضلِ ما كان يحبُّ ابنُهَا أبو الدرداءِ مِن العبادةِ. أجابتْ: التفكرُ والاعتبارُ. وكان أبو الدرداءِ كثيرَ الاعتبارِ، وينظرُ في أحوالِ الأممِ السابقةِ ليأخذَ منهَا العبرةَ والعظةَ، ويُنسبُ إليهِ مقولةُ: ” تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ مِن عبادةِ ليلةٍ “.
    فالتفكرُ مِن أعظمِ العباداتِ، كمَا قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: “التفكرُ في نعمِ اللهِ عزَّ وجلَّ مِن أعظمِ العبادةِ”. وقال عامرُ بنُ عبدِ قيسٍ: سمعتُ غيرَ واحدٍ ولا اثنينٍ ولا ثلاثةٍ مِن أصحابِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلم يقولُ: “إنَّ ضياءَ الإيمانِ أو نورَ الإيمانِ التفكرُ”. وقالَ الحسنُ: “تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ مِن قيامِ ليلةٍ”.
    وهكذا يُعَدُّ التفكرُ والاعتبارُ  – بما في القرآنِ مِن آياتٍ وأسرارٍ – مِن صفاتِ المؤمنينَ الأخيار.
    ثانيًا: صورُ الاعتبارِ في القرآنِ الكريمِ

    يشتملُ القرآنُ الكريمُ على صورٍ عديدةٍ مِن الاعتبارِ والتأملِ والتفكرِ، ومِن هذهِ الصورِ:
    الاعتبارُ بمصائرِ الأممِ السابقةِ: فقد قصَّ اللهُ علينَا مصائرَ الأممِ السابقةِ ومواقفَهُم مع أنبيائِهِم، وتكذيبِهِم المرسلين ومعاداتِهِم لهم، وما أحلَّ بهؤلاءِ المكذبين مِن هلاكٍ ودمارٍ وعذابٍ، قالَ تعالَى:  { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. (يوسف: 111). يقولُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ: ” لقد كانً في خبرِ المرسلين مع قومِهِم، وكيفَ أنجينَا المؤمنين وأهلكنَا الكافرين { عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ} وهي العقولُ” . ( تفسير ابن كثير ) .
    ونحن نعلمُ أنَّ العذابَ أنواعٌ وألوانٌ، كالغرقِ والخسفِ والمسخِ والصيحةِ والرجفةِ وغيرِ ذلك؛ قالَ تعالَى:{  فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}( العنكبوت:40) .
    وهذا النمرودُ الذي تكبَّرَ وتَجبَّرَ في الأرضِ حتّى قالً: { قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } (البقرة: 258)، فأَماتَهُ اللهُ ببعوضةٍ ضعيفةٍ، ولكنَّهَا جندٌ مِن جنودِ اللهِ، فكانَ لا يهدأُ إلَّا إذَا ضُرِبَ بالنعالِ علَى أمِّ رأسِهِ .
    ونمرودٌ آخرُ هو فرعونُ الذي قالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}( النازعات: 24)، وذلك عندمَا غرَّهُ ملكُهُ وسلطانُهُ وتفاخرَ قائلًا: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}. (الزخرف: 51)، فحطمَهُ اللهُ بملكِهِ، وأجرَى الأنهارَ مِن فوقِهِ؛ لأنَّ ملكَ الملكِ فوقَ كلِّ مُلكٍ، وسلطانَهُ فوقَ كلِّ سلطانٍ. ولذلكَ قالَ تعالَى بعدَ ذكرِ هلاكِهِ وغرقِهِ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}.(النازعات: 26). فنجَّاهُ اللهُ ببدنِهِ ليكونَ لمَن بعدَهُ عبرةً إلى قيامِ الساعةِ.
    وما نزلَ بيهودِ بنِي النضيرِ مِن ذلٍّ وهوانٍ فيه عبرةٌ لمَن يعتبر، وفي ذلك يقولُ جلَّ شأنُهُ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. (الحشر: 2). فالسعيدُ مَن وُعِظَ بغيرِهِ، والشقيُّ مًن اتعظَ بهِ غيرُهُ.
    ومنها: الاعتبارُ بتأييدِ اللهِ لرسولِهِ والمؤمنين: وذلك في جميعِ الغزواتِ وأبرزهَا غزوةُ بدرٍ الكُبرى. قالَ تعالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ}. (آل عمران: 13). فحينَ رأىَ رسولُ اللهِ جندَ قريشٍ قالَ: ” اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرَك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمَّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ . ” ( سيرة ابن هشام). فأمدَّ اللهُ المؤمنينَ بمددٍ مِن عندِهِ، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ؛ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ»، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ”. ( مسلم ) . وكانَ النصرُ حليفَ المسلمين.
    إنَّ حقيقةَ النصرِ في غزوةِ بدرٍ كانتْ مِن اللهِ تعالَى، وقد قصَّ اللهُ تعالَى ذلك في قولِهِ: { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. (آل عمران:126). وقالَ:{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ( الأنفال: 17).
    ومنها: الاعتبارُ ببهيمةِ الأنعامِ: حيثُ يتمُّ تنقيةُ الغذاءِ بتقنياتٍ ربانيةٍ يعجزُ عن مثلِهَا البشرُ، قالَ تعالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ} (النحل:66). يقولُ بعضُ العلماءِ: “إنَّ الغذاءَ إذَا طُبِخَ في المعدةِ انصرفَ كلُّ شيءٍ إلى سبيلِهِ، فينصرفُ الدمُ إلى العروقِ واللبنُ إلى الضرعِ، والبولُ إلى المثانةِ، والروثُ إلى الأمعاءِ ثم المخرجِ، فلا يمتزجُ شيءٌ منهَا بغيرِهِ، بل ولا يأخذُ واحدٌ منهَا مِن الآخرِ رائحةً أو تشوبهُ منهُ شائبةٌ، فتباركَ اللهُ أحسنُ الخالقين”.
    ومنها: الاعتبارُ بتعاقبِ الليلِ والنهارِ: قالَ تعالَى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ}.  (النور: 44). وقد ضربَ لنَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم أروعَ الأمثلةِ في الاعتبار بتعاقب الليل والنهار، والبكاءِ مِن خشيتهِ تعالَى، فقالَ يومًا لأمِّنَا عائشةَ رضي اللهُ عنها: «يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي» قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ،
    فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟، قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ }».[آل عمران: 190].(ابن حبان بسند صحيح).


    ثالثًا: فاعتبرُوا يا أُولِي الأبصار

    أيُّها الإخوةُ المؤمنون: ينبغِي على العبدِ أنْ يكونَ دائمَ النظرِ والتفكرِ والاعتبارِ بمَا في القرآنِ والكونِ مِن أسرارٍ تقربُ العبدَ مِن الواحدِ القهّارِ، ومِن جميلِ ما يُحكَى في هذا البابِ ما قالَهُ ابنُ الجوزِي عن نفسِهِ: ” عَرَضَ لي في طريقِ الحجِّ خوفٌ مِن العربِ، فسِرْنَا على طريقِ خَيْبَرَ، فرأيتُ مِن الجبالِ الهائلةِ والطُّرقِ العجيبةِ ما أذهلَنِي، وزادتْ عَظَمَةُ الخالقِ – عزَّ وجلَّ – في صدرِي، فصارَ يعــرضُ لـِـي عـندَ ذكــرِ الطُّرُقِ نــوعُ تعظيمٍ لا أجدهُ عندَ ذكرِ غيرِهَا، فصحتُ بالنفسِ: ويحكِ! اعْبُرِي إلى البحـرِ، وانظـرِي إليهِ وإلى عجائبهِ بعينِ الفكرِ، تُشاهدِي أهوالًا هي أعظمٌ مِن هذه. ثم اخرجِي إلى الكونِ والتفتِي إليهٍ، فإنَّك تريْنَهُ بالإضافةِ إلى السماواتِ والأفلاكِ كَذَرَّةٍ في فلاةٍ. ثم جولِي في الأفلاكِ، وطوفِي حولَ العرشِ، وتلمَّحِي ما في الجِنانٍ والنيرانٍ، ثم اخرُجِي عن الكُلِّ، والتفتِي إليه، فإنَّكِ تشاهدين العالمَ في قَبْضَةِ القادرِ الذي لا تقفُ قدرتُهُ عندَ حدٍّ. ثم التفتِي إليكِ، فتلمَّحِي بدايتِكِ ونهايتِكِ، وتفكرِي فيمَا قبلَ البدايةِ، وليسَ إلَّا العدمُ، وفيما بعدُ البلَى، وليس إلاَّ الترابُ. فكيفَ يأنسُ بهذا الوجودِ مَن نَظَرَ بعين فِكْرِهِ المبدأَ والمنتهَى؟ وكيف يغفَلُ أربابُ القلوبِ عن ذكرِ هذا الإلهِ العظيمِ؟”.(صيد الخاطر).
    فهَلّا اعتبرنَا وتفكرنَا في أنفسِنَا ونشأتِنَا ونهايتِنَا وما سنأخذُهُ مِن هذه الدنيا؟!
    هلَّا وقفنَا مع أنفسِنَا لحظةً قبلَ أنْ يأتي الأجلُ، ولا ينفعُ عبرةٌ أو نظرٌ أو وجلٌ؟!
    يُحكَى أنِّ ملكًا جاءَهُ مرضُ الموتِ، فأوصَى قائدَهُ بثلاتِ وصايَا بعدَ الموتِ، فقالَ لهُ الملكُ:
    وصيتِي الأُولَى: ألَّا يحملُ نعشِي عندَ الدفنِ إلَّا أطبائِي، ولا أحدٌ غيرُ أطبائِي! والوصيةُ الثانيةُ: أنْ يُنثرَ على طريقِي مِن مكانِ موتِي حتَّى المقبرةِ قطعُ الذهبِ والفضةٍ وأحجارِي الكريمة التي جمعتُهَا طيلةَ حياتِي!
    والوصيةُ الثالثةُ: حين ترفعونَنِي على النعشِ، أخرجُوا يديَّ مِن الكفنِ وأبقوهُمَا معلقتينِ للخارجِ وهمَا مفتوحتَان!
    وحين فرغَ الملكُ مِن وصيتهِ، قامَ القائدُ بتقبيلِ يديهِ وضمهِمَا الى صدرِهِ، ثم قالَ لهُ: ستكونُ وصاياكَ قيدَ التنفيذِ وبدونِ أي إخلالٍ، إنَّما هلَّا أخبرتَنِي سيدِي المغزَى مِن وراءِ تلك الوصايا الثلاث؟!
    أخذَ الملكُ نفسًا عميقًا وأجابَ: أريدُ أنْ أُعطِي العالمَ درسًا لم أفقههُ أو أعتبرْ بهِ إلّا الآن!!
    أمّا الوصيةُ الأُولى: فأردتُ أنْ يعرفَ الناسُ أنَّ الموتَ إذا حضرَ لم ينفعْ في ردِّهِ حتى الأطباءِ الذين نهرعُ اليهم إذا أصابَنَا أيُّ مكروهٍ، وأنَّ الصحةَ والعمرَ ثروةٌ لا يمنحهُمَا أحدٌ مِن البشرِ.
    وأمَّا الوصيةُ الثانيةُ: حتى يعلمَ الناسُ أنَّ كلَّ ما جمعناهُ مِن مالٍ لن نأخذَ معنَا منهّ شيئًا حتى فتاتِ الذهبِ.
    وأمَّا الوصيةُ الثالثةُ: ليعلمَ الناسُ أنَّنَا قَدِمْنَا الى هذه الدنيا فارغِي الأيدِي، وسنخرجُ منها  كذلك. فهل مِن معتبر؟!
    وصدقَ اللهُ حيثُ يقولُ:  { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.(الأنعام: 94 ).
    لذلك ينبغِي على العبدِ أنْ يأخذَ العبرةَ ويعملَ لدارِ البقاءِ، قالَ عليٌّ بنُ أبِي طالبٍ رضي اللهُ عنه : «ارتحلتْ الدُّنيا مدبرةً، وارتحلتْ الآخرةُ مقبلةً، ولكلِّ واحدةٍ منهما بّنُونَ، فكونُوا مِن أبناءِ الآخرةِ، ولا تكونُوا مِن أبناءِ الدنيا؛ فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حسابٌ، وغدًا حسابٌ ولا عملٌ». «صحيح البخاري». ومِن كلامِ عليٍّ رضي اللهُ عنه هذا أخذَ بعضُ الحكماءِ قولَهُ: «الدُّنيا مدبرةٌ والآخرةُ مقبلةٌ, فعجبٌ لمَن يُقبلُ على المدبرةِ ويُدبرُ عن المقبلةِ». «فتح الباري».
    فالعبدُ الكيسُ الفطنُ الذي يعتبرُ مِن الدنيا ويتزودُ للآخرة، فقد ” جَاءَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَجُلٌ مَعَهُ أَصْحَابُهُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ , وَيُوَدِّعُونَهُ وَيُوصُونَهُ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : إنِّي مُوصِيك بِأَمْرَيْنِ إنْ حَفِظْتهمَا حُفِظْتَ : إِنَّهُ لاَ غِنَى بِكَ عَنْ نَصِيبِكَ مِنَ الدُّنْيَا , وَأَنْتَ إِلَى نَصِيبِكَ مِنَ الآخِرَةِ أَحْوَجُ , فَآثِرْ نَصِيبَك مِنَ الآخِرَةِ عَلَى نَصِيبِكَ مِنَ الدُّنْيَا , فَإِنَّهُ يَأْتِي بِكَ ، أَوْ يُمَرُّ بِكَ عَلَى نَصِيبِكَ مِنَ الدُّنْيَا فَيَنْتَظِمُهُ لَك انْتِظَامًا , فَيَزُولُ مَعَك أَيْنَمَا زُلْتَ”. ( مصنف ابن أبي شيبة).
    اللهُمّ اجعلنَا مِن أهلِ التفكرِ والاعتبارِ، واحفظْ مصرنَا مِن الأهوالِ والأخطارِ،،،
    الدعاء……..         


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19, 2024 6:10 am