تشرذمت الأوس والخزرج إلي حد نوشك معه ان نفقد الأواصر وعلاقات القربي. ثم إلتهبت هذه القلوب وتلك النفوس بالعداوة والبغضاء إلي حد أصبح اسم كل طائفة من الطائفتين كافا بمجرد سماعه لاثارة الحماسة في قلوب أطراف الطرف الثاني. أمران عجيبان يواجهان النبي صلي الله عليه وسلم ويمثلان عقبة في سبيل تحقيق أهدافه وهي عقبة لا يمكن القضاء عليها دفعة واحدة وان لها جذورا متشعبة في القلوب تستجيب لأتفه الأسباب وتتجاوب كلما لاحت الفرصة.
وخير شاهد علي ما أقول: ان النبي صلي الله عليه وسلم بعد ان توصل إلي الطريقة التي يستل بها ميكروب الالتهاب. واستقر كل من الأوس والخزرج علي قرار. حدثت هذه الواقعة.. قال ابن اسحاق: مر شا بن قيس علي نفر من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه. فغاظه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم علي الاسلام. بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد. لا والله مالنا معهم اذا اجتمع ملأهم بها من قرار فأمر فتي شابا من يهود كان معه فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم. ثم اذكر يوم بعاث وما كان من قبله. وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاشعار. ففعل. فتكلم القوم عند ذلك. وتنازعوا وتفاخروا حتي تواثب رجلان من الحيين علي الركب فتقاولا. ثم قال أحدهما لصاحبه: ان شئتم رددناها الان جذعة- يعني الاستعداد لاحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم- وغضب الفريقان جميعا. وقالوا: قد فعلنا. موعدكم الظاهرة- والظاهرة: الحرة- السلاح السلاح. فخرجوا إليها "وكادت تنشب الحرب" فبلغ ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم. فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتي جاءهم فقال: يا معشر المسلمين. الله الله. أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم. بعد ان هداكم الله للاسلام وأكرمكم به. وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم؟ فعرف القوم انها نزعة من الشيطان. وكيد من عدوهم فبكوا. وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا. ثم انصرفوا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس. مهمة شاقة إذاً أمام رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يمثل غاية الغايات منها ان يدرك المتصدي لها الفرق بين القضية التي تمثل الهدف. والعقبة الكئود الي تعوق الوصول إليه. والالتهاب المحتقن الذي يصرف الناس عن التصدي لازالة العقبات.وانما لابد من رعاية دائمة وعيون ساهرة لهذه البؤرة المستعدة دائماً للاشتعال. ولهذه الأمة المستعمرة المتربصة بأصحاب المكان. لا تريد لهم خيرا ولا ترضي لهم ان يستقروا علي قرار والنبي يعلم ذلك كلَّه ويدركه علي وجهه. ويعلم ان الأمر كله خاص به وهو في حدود مسئوليته باعتباره القائد والامام وباعتباره المحور الذي تدور عليه جميع الأحداث في الدولة الوليدة. والأمة المزمع إنشاؤها.
ويا ليت قومي يعلمون
